برغم الانتصار العسكري الذي تحقق لها في هذه الحرب، إلا أن تحديات كبيرة تنتصب أمام القوى الثورة الجنوبية، تهدد كيانها ووحدة قواها السياسية والثورية والعسكرية. فقد ألقت هذه الحرب بظلالها الداكنة على وحدة الصف الجنوبي منذ اليوم الأول لها. ففي الوقت الذي انخرطت فيه الكثير من القوى الجنوبية، وعلى رأسها «المجلس الثوري للحراك الجنوبي» المؤيد بقوة للرئيس علي سالم البيض وشخصيات مستقلة، في هذه الحرب دون أي اشتراطات أو اتفاق ولو ضمني مع دول «التحالف»، تضمن من خلاله مكسباً سياسياً جنوبياً مستقبلياً، آثرت قوى حراكية أخرى كـ«المجلس الأعلى الجنوبي» بقيادة المناضل الكبير حسن أحمد باعوم، وشخصيات أخرى من خارجه كالمناضل محمد علي أحمد، رئيس «مؤتمر شعب الجنوب»، والدكتور محمد حيدرة مسدوس، الحياد، بعدما مرت بتجربة خذلان مريرة من هادي إبان حوار صنعاء، وبعدما أشاح «التحالف» العربي وجهه عن مطالبها المشروعة قبيل الحرب وفي أيامها الأولى.
وقد أثبتت الأيام صحة الموقف الأخير، وأدرك ذلك ليس فقط أصحاب هذا الموقف، بل شخصيات جنوبية عديدة كانت قد اصطفت مع القوى التي دخلت الحرب دون أي اشتراط أو وضوح من «التحالف». حتى الرئيس علي سالم البيض نفسه، برغم تأييده معصوب العينين للمشاركة الجنوبية في هذه الحرب دون ضابط أو تعهد خليجي بانفتاح مستقبلي حقيقي تجاه القضية الجنوبية، بات يشعر بالخذلان من «التحالف»، مع أن هذا الأخير لم يعط أي وعود للبيض ولا لغير البيض، بل إنه كان أكثر وضوحاً حيال الجنوب وحيال الوحدة اليمنية. فقد قالها في أكثر من مناسبة بأن هدفه من الحرب «استعادة الشرعية ومحاربة المد الإيراني»، مع التأكيد مراراً على بقاء الوحدة اليمنية بشكلها الحالي.
وخير دليل على هذا الموقف هو القرار الأممي الذي تقدمت به دول الخليج لمجلس الأمن، 2216، والذي يؤكد على الوحدة اليمنية، ويغلّ أي إشارة إلى القضية الجنوبية. ولكن البيض فضّل الصمت برغم مرارة هذا الشعور وهذه النتيجة، لئلا يؤثر سلباً على المساعي التي تبذلها رموز جنوبية تحت مظلة «الشرعية» و«التحالف»، وبالذات جهود اللواء عيدروس الزبيدي، الذي يرى فيه وفي «المجلس الانتقالي الجنوبي» الأمل الوحيد للمضي قدماً نحو الهدف الرئيس للجنوب، استعادة الدولة الجنوبية.
فـ«المجلس الثوري الجنوبي»، بقيادة المناضلين السفير قاسم عسكر جبران والدكتور صالح يحيى سعيد، المؤيد للرئيس السابق علي سالم البيض، برغم انحيازه لفكرة المشاركة العسكرية في هذه الحرب إلى جانب «التحالف» على الرغم من غموض موقف الأخير حيال القضية الجنوبية، إلا أنه استشعر خطأه بعدما يئس من الأمل الذي ظل يحدوه بتغيير «التحالف» موقفه تجاه القضية، وبالذات بعدما تحقق لهذا «التحالف» بدماء جنوبية نصر عسكري أخرجه من ورطته وحرجه الدوليَين، بعدما أخفق وما زال حتى اليوم في تحقيق أي انتصار حقيقي في الشمال.
وعطفاً على هذا الشعور بالخذلان، طفق «المجلس الثوري» بقطاع كبير من قياداته ونشطائه في مراجعة مواقفه، ونسج على إثر ذلك تحالفات مع القوى التي أثبتت الأيام صحة موقفها وصحة تخوفاتها، وبالذات «المجلس الثوري» بقيادة المناضل باعوم، بعدما تصاعدت مخاوفه من نشاط «المجلس الانتقالي الجنوبي» الذي يرى فيه «المجلس الأعلى» وقطاع كبير في «المجلس الثوري» تبعية فاقت مبدأ التعاون المشترك بينه وبين أبو ظبي، ستؤثر سلباً – وفقاً لتلك الهواجس – على الهدف الرئيس للثورة الجنوبية، هدف استعادة الدولة.
من المنتظر أن تشهد عدن، يوم السبت الواقع في الـ11 من نوفمبر الجاري، لقاءً موسعاً لقوى «المجلس الأعلى»، وربما بمشاركة قوى من «المجلس الثوري الجنوبي»، سيُكرّس لشرح موقف «المجلس الأعلى» بقيادة المناضل باعوم من التطورات الجارية على الساحة الجنوبية. وهو اللقاء الذي يأتي بعد أسبوعين تقريباً من لقاء موسع ضم المجلسين «الأعلى» و«الثوري» وبعض رموز «المقاومة الجنوبية»، وكُرّس لتدارس الأوضاع على الساحة الجنوبية، في وقت يمضي فيه «المجلس الانتقالي» قُـدماً على الأرض. وقد استطاع ذلك اللقاء أن يحافظ على استقلالية الغرض منه، برغم محاولات سلطة هادي دسّ أنفها فيه وتجييره بالاتجاه المغاير.
ففي غمرة هذه التباينات الجنوبية – الجنوبية وفي ذروة الاستقطاب السياسي المحلي والإقليمي على الساحة الجنوبية، دخلت سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي على الخط، لإثارة مزيد من الوقيعة، ورش مزيد من الملح على الجرح الجنوبي الملتهب أصلاً. وأعلنت تلك السلطة من الرياض، عبر أحزاب يمنية وعناصر جنوبية موالية لها، أنها تتبنى شكلياً القضية الجنوبية من خلال ما سُمي بـ«وثيقة التحالف السياسي الداعم للشرعية الممثل فيه كل الأحزاب اليمنية»، بتوجيه وإصرار من الرئيس هادي على اعتبار «الحراك الجنوبي السلمي بكافة مكوناته هو الحامل السياسي للقضية الجنوبية».
يتبين من صيغة هذه الفقرة جلياً ما المقصود بجملة «الحراك الجنوبي السلمي بكافة مكوناته». فهي تحاول إثبات أن «المجلس الانتقالي الجنوبي» يستأثر بتمثيل الجنوب، ويقصي باقي القوى الثورية الأخرى، فضلاً عن أن الفقرة عمدت إلى استخدام كلمة «السلمي» لتجرد الجنوب مستقبلاً، إن قُدر لأصحابها النجاح في جهودهم، من البندقية. وهذا التوجه من هادي وسلطته لا يمكن فهمه على أنه حرص منها على مستقبل القضية الجنوبية أو قناعتها بالإرادة الجنوبية الحقيقة، أو أن ثمة صحوة ضمير حدثت لها فجأة اتجاه الجنوب، وخير دليل على ذلك هو أن هذه السلطة تمضي قُدماً وبكل صفاقة في تمرير مشروعها (الستة أقاليم) رغماً عن الإرادة الجنوبية التي تتمسح بها اليوم لحاجة في نفسها.
فهذا التدخل المفاجئ من سلطة هادي لا يخطئ عقل عاقل، ولا عين مراقب، أن المقصود منه هو قطع الطريق على «المجلس الانتقالي الجنوبي»، الذي يوشك أن يستكمل تأسيس هيئات فروعه في المحافظات الجنوبية. كما يستهدف استمالة القوى الجنوبية الحراكية كـ«المجلس الأعلى» وحتى «المجلس الثوري» ضد «المجلس الانتقالي» إلى جانبها، وإثارة مزيد من الشقاق بينهم.
فبعدما ظلت قوى الحراك الجنوبي دون استثناء قبل هذه الحرب تطالب القوى اليمنية، بمن فيها سلطة هادي، والقوى الإقليمية، وبالذات فترة أشهر الحوار الوطني في صنعاء، بالاعتراف بالحراك الجنوبي السلمي ممثلاً للقضية الجنوبية، كان هذا المطلب يواجَه بالرفض والازدراء. فسلطة هادي والفئة الجنوبية النفعية المحيطة به التي تتبنى شكلياً القضية الجنوبية خدمة له ولحزب «الإصلاح»، حاولت وما زالت تحاول توظيف خلافات «المجلس الأعلى الجنوبي» الذي يقوده المناضل باعوم مع «المجلس الانتقالي» لغرض الوقيعة بين القوى الجنوبية أولاً، وتعزيزاً لموقفها ولمشروعها السياسي المرفوض جنوباً، والمتمحور حول فكرة الدولة الاتحادية اليمنية من ستة أقاليم ثانياً.
إلا أنه، وبرغم الرفض الذي يبديه «المجلس الأعلى» لسياسة «المجلس الانتقالي الجنوبي» بسبب ما يعتبره ولاءً مفرطاً للإمارات، إلا أنه لم يرتمِ في حضن سلطة هادي كما توخت، لمعرفته أن الخلاف مع «المجلس الانتقالي الجنوبي» يظل خلافاً على الوسيلة وليس على الهدف الاستراتيجي، ويظل «الانتقالي» هو الأقرب إليه من سلطة هادي دون أدنى شك. فخلاف «المجلس الأعلى الجنوبي» مع سلطة هادي هو خلاف على الهدف، ناهيك عن الوسيلة، وبالتالي كان من المتوقع ألا يتحالف مع هذه السلطة برغم خطابها الناعم نحوه، وبرغم الإغراءات التي تبديها له.
خلاصة القول: يبدو الجنوب بكل قواه التحررية الثورية والسياسية وشخصياته الوطنية والسياسية في الداخل والخارج، على تبايناتها، في مرمى الاستهداف من الجهات الأربع، من قِبل كثير من القوى المحلية والإقليمية، ولن ينجيه منها غير فتح قنوات التواصل والحوار بين قواه الثورية التحررية والسياسية والاجتماعية، ومع كل الشخصيات الوطنية المستقلة بكل مشاربها السياسية والاجتماعية المؤمنة بعدالة القضية الجنوبية في الداخل والخارج. ما دون ذلك، سيقع طريدة لأكثر من صيّاد.