كل ما يجري من حولك

عدالةُ الإمام علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ-

616

 

أم مصطفى محمد

لقد حرص الإمام علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- على إرساء سقواعد الشريعة الإسْـــلَامية بين أفراد الأُمَّــة الإسْـــلَامية حيث نجده -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قد منع الناس في الكوفة من الجلوس على ظهر الطريق؛ كَونه مظنّة للتعرّض لأعراض الناس، فها هو -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يكلم الكوفيين في ذلك ويشترط على بقائهم في الطريق بقوله “أدعكم على شريطة؟ “قالوا وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال «غضّ الأبصار، وردّ السّلام، وإرشاد الضّالّ»، ولقد كان من مظاهر عدله وسموّ ذاته -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أنّه قدّم خادمه قنبراً على نفسه في لباسه وطِعامه، فقد اشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين فقال لقنبر: “خُذِ الثوب الذي بثلاثة دراهم” فقال قنبر “أنت أولى به يا أميرَ المؤمنين، أنت تصعد المنبرَ وتخطب؟ فقال -عَلَيْهِ ‌السَّلَامُ- «يا قنبر أنت شابٌّ ولك شره الشّباب وأنا استحي من ربّي أن أتفضَّلَ عليك»، نعم هذا هو أمير المؤمنين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ذلك الذي التزم الصراحةَ والصدقَ في جميع شئون حياته فلم يواربْ ولم يخادعْ ولم يداهنْ في دينِه وسار على منهج أخيه وابن عمّه رسول الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم، فهو الذي أبى ضميرُه الحيّ أن يخادعَ أَو يماكر في سبيل الوصول إلى السلطة فقد زهد فيها وتنكّر لجميع مغرياتها وكان كثيرا ما يتنفّس الصعداء من الآلام المحيطة به من جرّاء خصومة القرشيين فكان يقول «وا ويلاه! يمكرون بي ويعلمون أنّي بمكرهم عالم، وأعرف منهم بوجوه المكر ولكنّي أعلم أنّ المكر والخديعة في النّار فأصبر على مكرهم ولا ارتكب مثل ما ارتكبوا» ولقد ردّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- على مَن قال فيه إنّه لا دراية له بالشؤون السياسة وإنّ معاوية خبير بها فقال «واللهِ ما معاوية بأدهى منّي ولكنّه يغدر ويفجر ولوْلا كراهية الغدر لكنتُ من أدهى النّاس»، فعلى هذا الخلق الرفيع قد بنى الإمام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سياسته الرشيدة التي لا التواء ولا خداع فيها والتي كانت السببَ في خلوده في جميع الأجيال والآباد.

لقد انتهج الإمام علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- طريقة خاصّة في العطاء تتمثل في التسوية بين المسلمين، فلم يميّز قوماً على قوم ولا فئة على فئة، ولقد جرت له هذه السياسة الكثير من الأزمات وخلقت له المصاعب؛ كَونها قد أفسدت عليه جيشه وجعلت الوجوه والأعيان تتنكر له حيث ناهضته الرأسماليةُ القرشية التي استأثرت بأموال المسلمين في عهد الخلفاء وذلك لكون الإمام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قد خالف سياسة عمر التي بُنيت على التفاوت بين المسلمين في العطاء حيث كان يفضل البدريّين على غيرهم، ويفضّل الأنصار على غيرهم الأمر الذي ساهم مساهمة كبيرة في إيجاد الطبقيّة والرأسمالية بين المسلمين فما كان من الإمام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إلا أن ألغى هذه السياسة إلغاءً تامًّا حيث ساوى بين المسلمين كما كان يفعل رسول الله صلى ‌اللهُ ‌عليه‌ وآله ‌وسلم متجاهلاً كلما كان يحاكُ حوله من المؤامرات فعندما مُنِيَ جيش الإمام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بالانحلال والتخاذل واتّجهوا صوبَ معاوية سارع ابن عباس نحو الإمام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فعرض عليه حالةَ جيشه وما يصلحُه قَائِلاً: (يا أميرَ المؤمنين فضّل العرب على العجم، وفضِّلْ قريشاً على سائر العرب.. فرمقه الإمام بطرفه وردّ عليه قَائِلاً: «أتأمرونّي أن أطلب النّصرَ بالجور؟ ولو كان المالُ لي لسويت بينهم، فكيف وإنّما المالُ مالُ الله».

لقد تبنّى هذا العملاق العظيم مصالح البؤساء والمحرومين وآثرهم على كلّ شيء متحملا في سبيل ذلك الصعاب، فمن مظاهر عدله في مساواته أنّ سيّدةً قرشيةً وفدت عليه طالبة منه زيادة مرتبها فلمّا انتهت إلى الكوفة لم تهتد إلى محل إقامته، فسألت سيّدة عنه وطلبت منها أن تأتيَ معها لتدلّها عليه فسارت معها تلك السيّدة، فسألتها القرشية عن مرتبها فأخبرتها به وَإِذَا هو يساوي مرتبها وسألتها عن هُويّتها فأخبرتها أنّها أعجميةٌ فلمّا انتهت إلى الجامع الأعظم الذي يقيم فيه الإمامُ أمسكت بها القرشيةُ وأخذت تصيح (أمن العدل يا ابنَ أبي طالب أن تساويَ بيني وبين هذه الأعجمية؟ فالتاع الإمام منها وأخذ قبضة من التراب وجعل يقلّبها بيده وهو يقول «لم يكُ بعضُ هذا التّراب أفضلَ من بعضٍ» وتلا قوله تَعَالَى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)، إن هذه السياسةَ المشرقةَ التي انتهجها الإمام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أدَّت إلى إجماع القوى المنحرفة والباغية على الإطاحة بحكومته وشلّ فعاليّاتها، فقد كانت بني أميّة ومعها قريش تريد من الإمام أن يهبها الأموال التي اختلسوها في أيام عثمان وتريد منه الانحراف عن منهجه وإيثاره لمصالح المسلمين على كلّ شيء، ولكن الإمام لم يحفل بهم حيث أنه -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قد عاهد الله تَعَالَى أن يسير بين المسلمين بسياسة قوامها العدل الخالص وأن يقف بالمرصاد لكلّ ظالم وأن لا يخضع للأحداث مهما كانت قاسية وشديدة.

أنّ من أهمّ الأسباب الوثيقة التي أدّت إلى قيام الأمويّين والقرشيّين بعصيانهم المسلّح وإعلانهم التمرّد على حكومة الإمام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هو سياسته الاقتصادية الهادفة إلى إعلان المساواة والعدالة بين الناس، ومعاملة الأمويّين ومن شابههم معاملة عادية، الأمر الذي جعل نفوس الأُمويّين تمتلأ بالبغض والكراهية للإمام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وهذا البغض قد كان من الأمور المتأصلة في نفوسهم الخبيثة فقد كانوا يحقدون على الإمام -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ كَونه قد وترهم وحصد رءوس أعلامهم حينما أعلنوا الحرب بلا هوادة على رسول الله -صَلَّى‌ اللهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَآلَـهُ ‌وَسَلَّمَ- فكما ناجزت هذه القوى الرسول -صَلَّى‌ اللهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَآلَـهُ ‌وَسَلَّمَ- في واقعة بدر وأحد والأحزاب نجدها قد هبّت إلى مناجزة وصيّه وباب مدينة علمه فوضعت أمام مخطّطاته الإصلاحية السدود والحواجز، وألقت الأمّة في شرّ عظيم ولذلك نجده -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يصعّد آلامه وزفراته منهم قَائِلاً: «ما لي ولقريش! والله! لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنّهم مفتونين، والله! لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته! فقل لقريش: فلتضجّ ضجيجها».

You might also like