قاطع الفلسطينيون مؤتمر «وارسو» كإعلان رسمي ومباشر منهم برفض صفقة القرن، أي إنهم لن يكونوا طرفاً فيها في التفاوض ولا في التطبيق.. ولكن- ومع كامل التقدير لهذا الموقف- نسأل: هل تكفي المقاطعة لمنع تمرير صفقة القرن أو لمنع تمرير شقها الاقتصادي الذي يُقال إن التفاوض حوله قطع مرحلة مهمة في «وارسو» ولم تبق إلا «الرتوش».. ونسأل أيضاً: هل في الإمكان فعل ذلك من دون موافقة الفلسطينيين، أي باستبعادهم في حال لم تنفع الضغوط التي ستتضاعف في الأسابيع المقبلة في إجبارهم على الرضوخ؟

«وارسو» وجولة كوشنر

في الجواب عن السؤال الأول، فإن المقاطعة لن تمنع عملية التفاوض أو الوصول إلى توافق مبدئي (مع العرب المعنيين) كما ظهر في التصريحات لاحقاً.. الإدارة الأمريكية- على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو- اكتفت بالأسف لهذه المقاطعة، علماً أن عملية التفاوض كانت حاضرة في الكواليس فقط وليس على منصة «وارسو» التي خصصت لـ «مواجهة إيران» وفق الهدف الأمريكي المُعلن.. مع ذلك، فإنه لا يمكن إلا التوقف عند هذه المقاطعة، لناحية المجتمع الدولي الذي ليس كله في صف الصفقة الأمريكية.. هناك روسيا على سبيل المثال التي استضافت مؤخراً مؤتمراً للحوار الفلسطيني.. وهناك أوروبا، وإن على مستويات مختلفة، وهي بمعظم دولها تقصّدت التمثيل المنخفض في مؤتمر «وارسو».. وليس صحيحاً القول إنها لم تشكل فارقاً في «وارسو» سواء فيما يخص صفقة القرن أو إيران.. صحيح أن التمويل (العربي) سيكون ورقة قوية في يد واشنطن، لكنها ليست ورقةً نهائية.

في الجواب عن السؤال الثاني، فإن الإدارة الأمريكية ستضاعف ضغوطها، ليس على الفلسطينيين فقط بل على المعنيين بملف صفقة القرن إقليمياً ليضغطوا بدورهم على الفلسطينيين، فهي لا تريد ترك ثغرة وراءها.. هي تريد تطبيقاً كاملاً للشق الاقتصادي وبموافقة الفلسطينيين طوعاً أو غصباً، وبما يقطع الطريق على تدخل الخصوم.. ولا نعتقد أن مهمة الولايات المتحدة ستكون سهلة، مادام الجانب الفلسطيني بقي متمسكاً بموقفه الرافض.. ومع ذلك، لن نستبق التطورات بنتائج جازمة، والأفضل أن نتابع التطورات كل يوم بيومه في الأسابيع المقبلة، للبناء على ما تحمله.. جزماً أو نفياً أو ما بين بين.

ماذا في الشق الاقتصادي؟

كان العام الماضي 2018 حافلاً بالتسريبات المتعلقة بصفقة القرن، وكلها كانت تلتقي في عدة نقاط فيما يخص الدولة الفلسطينية الموعودة، لكن أياً منها لم يجر تأكيده.

بداية هذا العام 2019 اتخذت التسريبات شكلاً مختلفاً، بدا مبرمجاً ومدروساً، ومجملها متعلق بالجانب الاقتصادي، ومترافق مع تأكيدات على لسان أكثر من مسؤول أمريكي – على رأسهم كوشنر نفسه قبل توجهه إلى المنطقة.. ويبدو أن كوشنر فشل في إقناع الأوروبيين بشقه الاقتصادي، وتالياً، فإن مشاركتهم في التمويل ليست مضمونة من دون أن يقدم لهم كوشنر الجانب الآخر من الصفقة المتعلق بالترتيبات السياسية المرتبطة بدورها بالترتيبات على الأرض.
في التسريبات الأخيرة- أهمها أوروبية- أن الشق الاقتصادي من صفقة القرن سيدمر كل ما له صلة بالدولة الفلسطينية.. أخطر من ذلك فهذه الدولة غير موجودة في الأساس في صفقة القرن. لنتذكر هنا تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان (في 13 كانون الثاني الماضي) بشأن أن صفقة القرن لم تعد مطروحة بالشكل الذي كانت التسريبات تقوله.. ليسَ فقط لأنّ الفِلسطينيّين مِن مُختَلف الاتِّجاهات يَرفُضونها، وإنّما لأنّ الأحداث في المِنْطَقة تجَاوَزتها، والفَضْل في ذلِك يعود للتطبيع من دون أي التزام «بحل الدولتين».

في كل الأحوال يمثل هذا الشق الاقتصادي إحياء لما يسمى خطة «السلام الاقتصادي» التي سبق أن طرحها جون كيري (وزير الخارجية الأمريكي في عهد أوباما).. وحسب المحللين، فإن الهدف هو تشتيت انتباه الفلسطينيين عن قضيتهم الأساسية، وشغلهم بمتطلبات الحياة اليومية والمعيشة فقط، من خلال توفير فرص عمل وإغراءات واستثمارات مرحلية (وكان كوشنر تحدث سابقاً عن السلام الاقتصادي مشيراً إلى أنه يشمل تأسيس مشاريع استثمارية في البنية التحتية، والتدريب المهني والتحفيز الاقتصادي، ولن يقتصر ذلك على الأراضي الفلسطينية فحسب، وإنما سيشمل الأردن ومصر أيضاً.. وهذا يتوافق مع ما تطرحه «إسرائيل» التي تعد أن التطبيع كفيل بإنهاء القضية الفلسطينية.. لتبقى بعد ذلك القضايا المعيشية الحياتية.. وهذه أمرها سهل).. وكان نُقل عن كوشنر قوله: إن الشق الاقتصادي سينجح فقط إذا دعمته دول المنطقة الغنية (أي بعض الدول الخليجية) مضيفاً أن هذا الجانب مهم جداً في إطار التمهيد للكشف النهائي عن صفقة القرن.

قبل وبعد

للمقارنة.. ماذا كان في التسريبات المعتادة طوال عام مضى وحتى قبل شهر من الآن، أي قبل «التحسينات» الاقتصادية الأمريكية؟

أغلب التسريبات كانت تتركز على «دولة فلسطينية على 80- 90% من الضفة الغربية، مع الإبقاء على أغلبية المستوطنات التي تفوق مساحتها 10 في المئة من الضفة.. إعلان أجزاء من القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وتكون القدس الغربية عاصمة لـ«إسرائيل» ومعها البلدة القديمة والمسجد الأقصى.. تقسيم المستوطنات في الضفة إلى 3 فئات: الكتل الاستيطانية الكبيرة لا مساس بها.. المستوطنات خارج الكتل الاستيطانية الكبيرة لا يتم توسيعها.. والمستوطنات العشوائية يتم تفكيكها…ويتم اعتماد مبدأ التبادل للأراضي التي أقيمت عليها المستوطنات».
هذا ما كان يُسرب طوال الوقت، أما ما كان يجري واقعياً فهو تمرير ما تريده «إسرائيل» على مراحل، فكانت المرحلة الأولى بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل». والمرحلة الثانية تمثلت في تبادل زيارات بين «إسرائيل» ودول عربية (خليجية بخاصة).. زيارات علنية ولكن متدرجة، وهذا ما شهدناه طوال العام الماضي 2018. والمرحلة الثالثة تصفية الـ «أونروا» وبما ينهي قضية اللاجئين تمهيداً لتوطينهم في دول اللجوء.. هذا ما يُسمى «كل شيء مقابل لا شيء» وهي خطة ترامب – كوشنر التي بدأ العمل عليها منذ أول يوم لرئاسة ترامب وعُرفت فيما بعد بـ «صفقة القرن».

الفصل الأخير

ومع إسقاط القدس، واللاجئين، وإخراج التطبيع إلى العلن (وكان مؤتمر وارسو الفصل الأخير في عملية الإخراج هذه).. تكون أعقد القضايا قد أزيحت، من دون تفاوض ومن دون تنازلات من قبل «إسرائيل».. وفي اعتقادنا أن هذا التطبيع هو ما غطى على إسقاط القدس واللاجئين، وهو ما سيغطي لاحقاً على إسقاط الدولة الفلسطينية بفعل «الشق الاقتصادي» الذي سيحمله كوشنر إلى المنطقة.. هذا التطبيع يريد أن يُوجد واقعاً جديداً فيما يخص القضية الفلسطينية (والمنطقة على نحو عام) وكله بذريعة مواجهة «الخطر الإيراني».. بل يذهب فريق واسع من المحللين للتأكيد أن «وارسو» كان هدفه الأساس- ليس إيران- وإنما تمرير هذا التطبيع، بدليل مستوى التمثيل المنخفض جداً- وإن كان عدد الدول المشاركة وصل إلى حوالى 60 دولة- بينها 10 دول عربية شاركت على مستوى وزراء الخارجية، ليكون تمثيلها الأعلى، وهذا ما أعطى انطباعاً لدى المحللين بأن المؤتمر كاد أن يكون «عربياً- إسرائيلياً» (ليست فلسطين على جدول أعماله) وهذا ما جاء صراحة في تصريحات نائب الرئيس الأمريكي مايك بينس الذي عدّ أن «وارسو» بداية حقبة جديدة في العلاقات «العربية»- الإسرائيلية.. على نحو عام لم يخرج مؤتمر «وارسو» بشيء حيال ما يخص «مواجهة إيران» ولا حتى ببيان ختامي.. خرج فقط بتلك «الحقبة الجديدة» التي لم تكن بحاجة لبيان ختامي.
أما ما يُقال عن أن واشنطن أرادت من «وارسو» أن يكون اصطفافاً دولياً تأسيساً لحرب باردة جديدة بين عالمين شرقي وغربي.. فلا يبدو أن هذا هدفاً أمريكياً في عهد ترامب الذي لا يؤمن بالتحالفات، بل يريد أمريكا «قوة عظمى» وحدها تعمل على القضايا العالمية منفردة، كل منها على حدة، حسب رؤيتها الخاصة ومصالحها وما على الدول الأخرى إلا الاستجابة.. وحتى إذا عددنا «وارسو» اصطفافاً جديداً، فإن واشنطن غيرت البوصلة كلياً باتجاه «الشرق» ولا نعني هنا الشرق الأوسط، بل شرق آسيا.. شرق أوروبا.. شرق إفريقيا.. وهذا ما أعلنه بومبيو غير مرة.. ولكن ما يهمنا بالطبع هو شرقنا وفلسطيننا، في منعطف أمريكي– عالمي هو الأخطر على منطقتنا حتى الآن.

قراءة: مها سلطان – سوريا