الجنوبيون إلى ديارهم.. الانسحاب الذي يسبق العاصفة
يتوالى انسحاب الجنوبيين، بل تبرؤهم، مما يجري ضد مواطنيهم في الشمال من حرب دامية ومدمرة، يشنها ضدهم الجيران بوجوه بشوشة، وحجج مغشوشة، وتكتيكات مربوشة، سواء أكان ذلك الانسحاب من الجبهات الحربية وخطوط النار، ولاسيما في جبهات الساحل الغربي والحد الجنوبي، أو بالانسحاب من التعاطف مع «التحالف الأعرابي» بعد أن كشر عن أنيابه للشماليين والجنوبيين على السواء، ضارب هؤلاء بنيرانه المدمرة لبنيته، أو منهك لأولئك بفئرانه القارضة لثروته.
فمن جانب اتضحت لكل جنوبي، بما فيهم النخب، مدى عبثية الحرب في بلادهم، بل ووبالها عليها كدولة أصبحت غائبة ومعطلة عن أي حقوق يجب عليها أن تسديها لمواطنيها الذين اعتادوا عليها، وهم الآن يفتقدونها افتقادًا يتعاظم مع تطاول مدة الحرب، وغياب أي نهاية منظورة لها. وهي فوق ذلك عبثية في فقدها لبوصلة الهدف المعلن لها في إعادة «الشرعية» والتخلص من «الانقلاب»، فلا هي أعادت تلك «الشرعية» ولو للعاصمة المؤقتة، بل هي موزعة الأفراد بين عدن ومأرب والرياض، ولا هي زحزحت «الانقلابيين» إلا عن بعض المناطق المحدودة في أطراف الشمال، لكنها في الوقت نفسه تعمل بشراهة وشراسة على تدمير كل البنى العسكرية والمدنية والتحتية في المدن المختلفة، بما فيه ما جرى تدميره في عدن نفسها، والتي ما زالت تعيش آثار الحرب، لا بل ما زال شبحها مخيما عليها باعتراف رئيس حكومتها قبل أشهر قليلة.
ومن جانب آخر لاحظ عقلاء الجنوبيين أن «التحالف» بدأ يشتغل على زرع العداوة بينهم وبين مواطنيهم في الجهة الأخرى، وذلك بزجهم في معارك لا أقول لأنها خارج أراضيهم، بل لما يسفر عنه من معارك ضارية وغير أخلاقية، فمن ناحية أنها تمثل الوجه السافر والقبيح للحرب الأهلية (جنوبي/ شمالي)، والشيء الآخر أنها تبدو وكأنها معركة من أجل تمكين غاز أجنبي من بلادهم، فهم إن كانوا قد استبسلوا في عدن ومناطق الجنوب لاستردادها من المحتل (اليمني)، فإنهم الآن سيسلمون أرض يمنية لمحتل أجنبي يقاتلون بإشارة منه لا غير، وكأن هذا الأجنبي بإرساله للجنوبيين إلى الساحل التهامي وتعريضهم هناك للضربات المروعة المتوالية، يريد متعمدًا أن يكسر في نفوسهم نشوة «النصر» الذي حققوه على أصحاب الشمال حين كانت الحرب مندلعة في مدنهم وعقر ديارهم.
أما الأوضاع المتردية في كل نواحي الحياة اليومية والتي يعيشونها في مناطقهم الجنوبية، التي توصف في الإعلام العاصفي بالمحررة، (وهي في الحقيقة محرحرة)، فهي تلامس كل بيت، بل كل فرد هناك، ولسان حالهم شبيه بما قاله بنو إسرائيل في مصر بعد مبعث النبي موسى (عليه السلام) حين خاطبوه بقولهم: «أوذينا من قبل أن تأتينا، ومن بعد ما جئتنا»، فالمحافظات الجنوبية والشرقية، باتت تشعر بأنها تعيش اليوم أسوأ أحوالها منذ ما بعد حرب صيف 94، تعيش حالة اللا دولة، فلاهم في دولة احتلال ترثي لحالهم، ولا دولة استقلال تصلح أحوالهم.
أما آمال ما كان يسمى بـ«الحراك الجنوبي» الذي ساد تلك المحافظات لسنوات طوال خلت فقد ذهبت مع الريح، وألوت به «عاصفة الحزم» في طريقها، وصدق فيهم قول الشاعر أبي الطيب المتنبي:
«ومن يجعل الضرغام بازًا لصيده… تصيّده الضرغام في ما تصيّدا».
فأصبحوا بحسن ظنهم، أو على الأرجح بحسن غفلتهم، صيدا سهلا للأعراب الغِراب، ونعق على نضالهم الغُراب، وهكذا هم يحسنون دومًا الزعيق والصراخ ولكن بعد فتح الباب، أو دخول الحمام بلا ثياب.
لذلك كله نفض المواطنون البسطاء أيديهم عن «التحالف»، الذي لم يحالفه الحظ في تحقيق أي نصر يذكر له في اليمن، فهو قد أساء إلى الجميع، وأخطأ بحق الجميع، من حوف إلى الجوف، ولم يعد له من متبع سوى سياسي أكول، أو درويش مخذول، أو متعالم جهول، أما السواد الأعظم في الجنوب، فيسوده التململ، ويتأهب بعد الانسحاب لعاصفة معاكسة في صورة ثورة جياع تنفجر في وجه «التحالف»، ومن في كنفه من الرعية التي يسميها «الشرعية»، ويمكن أن نسميها حينئذ بـ«عاصفة حزم البطون».
*العربي| أحمد باحارثة