الاحتلال يسعى لتحويل فلسطينيي الداخل إلى “أعداء أمنيين”.. تشريع عُنصري يكرِّسُ عقليةَ السيطرة والخوف
متابعات..|
تتجهُ حكومةُ الاحتلال الإسرائيلي بخطوات متسارعة نحو تحويل فلسطينيي الداخل -أصحاب الأرض الأصليين- إلى “أعداء أمنيين” في نظر الدولة، عبر مشروع قانون خطير يسعى إلى تصنيف المنظمات الإجرامية داخل المجتمع العربي كـ”تنظيمات إرهابية”، في خطوة تُنذر بتحول عميق في العلاقة بين السلطات الإسرائيلية والمواطنين العرب، من علاقة مدنية قائمة على المواطنة الشكلية، إلى علاقة أمنية تُحكم بالاشتباه والرقابة.
التحوُّلُ الذي تقودُه حكومة اليمين الفاشي برئاسة بنيامين نتنياهو ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، يأتي في إطار سياسةٍ أوسع تقوم على شيطنة المجتمع العربي وتصويره كمصدر تهديد دائم، لا كجزءٍ من النسيج الاجتماعي للدولة، ويبدو أن اليمين الإسرائيلي يسعى عبر هذا التشريع إلى تحقيق هدفين متوازيين: الأول سياسي داخلي يتمثل في شدّ العصب اليميني وكسب الشارع المتطرف، والثاني أمني استراتيجي يرمي إلى تعزيز أدوات المراقبة والسيطرة على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
الخبير في العلاقات المجتمعية ومكافحة الجريمة، أمنون باري–سوليشيانو، اعتبر أن هذا المسار “يشكل صَبًّا للزيت على نار العنف المستشري”، محذرًا من أن تحويل الجريمة المنظمة إلى قضية “إرهاب” سيفتح الباب أمام ممارسات قمعية واسعة بحق المجتمع العربي، تحت غطاء القانون؛ ففي مقاله المنشور بــ موقع “زمان إسرائيل”، أكّـد أن الجريمة في أوساط فلسطينيي الداخل، رغم واقعها المؤلم، لا تحمل أي بعد أيديولوجي أَو قومي، بل تنبع من أسباب اقتصادية واجتماعية مزمنة، في مقدمتها الفقر والتهميش والتمييز البنيوي.
ويكشف هذا المشروع عن محاولة مريبة لتوسيع نطاق قانون مكافحة الإرهاب، الذي صُمم أَسَاسًا لملاحقة من يتصرفون بدوافع سياسية ضد الاحتلال، بحيث يشمل الجرائم الجنائية العادية، مما يمنح جهاز “الشاباك” والأجهزة الأمنية صلاحيات استثنائية للتجسس والمراقبة والاعتقال الإداري بحق مواطنين داخل حدود 1948، بحجّـة محاربة الجريمة. وهو ما يراه الخبراء انقلابًا خطيرًا على القانون المدني ومبادئ العدالة، ووسيلة لتقويض ما تبقّى من ثقة بين الشرطة والمجتمع العربي.
ويحذّر باري–سوليشيانو من أن تصنيف المنظمات الإجرامية كـ”إرهابية” لن يقتصر على مطاردة الجناة الحقيقيين، بل سيجرّ معه انتهاكات جماعية، كتجريد الأفراد من حقوقهم الأَسَاسية، وفرض العقوبات على المشتبه بهم دون أدلة كافية، واستبدال المسار القضائي الطبيعي بإجراءات طوارئ عسكرية وأمنية؛ بكلمات أُخرى، فإن القانون الجديد يحوّل الدولة من جهة إنفاذ قانون مدني إلى كيان أمني شمولي يطبق معايير الحرب على مواطنيه.
وتتجاوزُ خطورةُ هذا التوجّـه البُعدَ القانوني إلى ما هو أعمق اجتماعيًّا وسياسيًّا؛ إذ يرسخ “الوصم الجماعي” لفلسطينيي الداخل؛ باعتبَارهم موضع شك دائم، ما سيقوّض أي إمْكَانية للتعاون بين المجتمع العربي وجهاز الشرطة، الذي يفتقر أصلًا إلى الثقة الشعبيّة؛ فبحسب الخبير الإسرائيلي، عندما يُربط العنف داخل المجتمع العربي بدوافع قومية أَو إرهابية، فإن المواطنين سيخشون التبليغ أَو الشهادة، خشية أن يُتهموا هم أنفسهم بدعم الإرهاب، لتدخل العلاقة بين الطرفين في دوامة من الشك المتبادل والعزلة.
لقد تطلب بناء جسور الثقة بين المجتمع العربي ومؤسّسات الدولة -ولو بشكل محدود- سنوات طويلة من الحوار والاستثمار في برامج الشراكة والدمج، إلا أن مشروع القانون الجديد ينسف هذه الجهود من جذورها ويعيد الخطاب الإسرائيلي إلى مربعه الأول، حَيثُ يُنظر إلى العرب لا كشركاء في مكافحة الجريمة، بل كجزء منها، بل وكأعداء يجب مراقبتهم وضبطهم.
اللافت أن حكومة الاحتلال، وهي تدّعي محاربة “العنف والجريمة” في المجتمع العربي، تتجاهل عمدًا الأسباب البنيوية التي تغذي هذا الواقع: عقود من الإهمال، وتفاوت هائل في مخصصات البلديات العربية مقارنة باليهودية، وحرمان مُستمرّ من فرص العمل والتعليم، وغياب الخطط الاقتصادية والاجتماعية الجادة لمعالجة الجذور العميقة للعنف؛ وبدلًا من إصلاح السياسات الفاشلة، تختار المؤسّسة الأمنية الطريق الأسهل: إعلان الحرب على الضحية وتبريرها بمفردات “الأمن القومي”.
في المحصلة، يبدو أن الهدف الحقيقي من هذا المشروع ليس مكافحة الجريمة بقدر ما هو ترسيخ “عقلية الاحتلال” داخل الخط الأخضر نفسه، وتحويل الفلسطينيين الذين يحملون الهوية الإسرائيلية إلى فئة موصومة قانونيًّا وأمنيًّا، قابلة للمراقبة الدائمة، ومحرومة من الحماية القانونية الكاملة؛ إنها إعادة إنتاج لفكرة “العدوّ الداخلي” التي شكّلت جوهر العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ قيام الكيان، ولكن هذه المرة عبر أدوات تشريعية جديدة تمنح الشرعية القانونية للتمييز العنصري، تحت لافتة “مكافحة الإرهاب”.
المصدر: موقع “زمان إسرائيل”