“معهد واشنطن” يرسم ملامح تراجع الهيمنة البحرية الأمريكية في البحر الأحمر والمنطقة
عجزت واشنطن عن فك شيفرة "الحوثيين" ووجدت نفسها أمام عدو لا يتراجع ولا يمكن استيعابه
متابعات..|
شكّلت ارتدادات الحرب الإسرائيلية على غزة، بما عُرف لاحقاً بـ”حرب الإسناد”، تحوّلاً في رسم خارطة الهيمنة البحرية في أحد أهم المضائق والممرات البحرية الحيوية الدولية. وقد أبرزت تطورات العامين الأخيرين هشاشة ادعاءات الهيمنة البحرية الأمريكية والغربية في منطقة الشرق الأوسط…
وفي تقرير مهم سلّط “معهد واشنطن” الضوء على المعضلة الأمريكية في منطقة البحر الأحمر والتي عجزت عن حلحلتها لا بالقوة المفرطة ضد اليمن كما فعلت طيلة شهرين من حملتها الجوية المكثّفة ولا بالالتفاف الدبلوماسي كما اعتادت ان تفعل حينما لا تجدي القوة نفعاً .
ورغم محاولات الدعاية الأمريكية والغربية بتصوير السيطرة على المنطقة من خلال زيادة الدوريات البحرية ومرافقة البوارج لسفن الشحن ونشر وحدات بحرية غير مأهولة جديدة كـ”قوة المهام 59″ لمراقبة خطوط الشحن، وتشكيل قوة المهام المشتركة (الصورية)، وصولاً إلى عمليتي “حارس الازدهار” الأمريكية و”أسبيدس” الأوروبية ـ فإن الشكوك تعاظمت لدى الشركاء الخليجيين.
لقد أدى استهداف منشآت النفط السعودية في “بقيق” و”خريص” بصواريخ كروز وطائرات مسيرة كلاً من الرياض وأبوظبي إلى التشكيك في جدية الخطوط الحمراء الأمريكية، بعدما أصابت الضربة منشأة حيوية تزود الولايات المتحدة وأوروبا بالنفط دون أي رد.
ومع اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر، انتقل الحوثيون إلى استراتيجية جديدة، فأطلقوا طائرات مسيرة وصواريخ باليستية ـ لأول مرة في التاريخ العسكري ضد السفن ـ إضافة إلى زوارق مفخخة غير مأهولة محمّلة بكميات هائلة من المتفجرات.
وبحلول نهاية العام، كانت البحريات الغربية تواجه هجمات يومية، فيما اضطرت شركات الشحن العالمية لتحويل مساراتها حول أفريقيا.
لم ينجح ترامب في كبح جماح الحوثيين الذين صعّدوا عملياتهم في البحر الأحمر وإلى العمق الإسرائيلي ضمن معركة “إسناد غزة”، رغم تصدّره المشهد نيابة عن إسرائيل
وفي مارس، أطلقت الولايات المتحدة تحالف صغير اقتصر عليها فعلياً بمشاركة بريطانية إسرائيلية رمزية عليه عملية “راكب خشن”، وهي حملة من الضربات استمرت 53 يوماً ضد أهداف حوثية في اليمن، لكنها انتهت بانعطاف أمريكي إجباري، إذ ادعى ترامب أن الحوثيين تراجعوا بينما الحقيقة أن حاملات الطائرات الأمريكية هي من غادرت المنطقة.
لم تُضعف الضربات قدرات الحوثيين أو استعدادهم لمواصلة الهجمات. ففي يوليو ـ بعد شهرين من وقف إطلاق النار في اليمن وأسبوعين من قصف أمريكي-إسرائيلي للمنشآت النووية الإيرانية ـ أغرق الحوثيون سفينتين أخريين، وأعلنوا “حصاراً بحرياً” على ميناء إيلات الإسرائيلي، مع إطلاق موجات أخرى من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة.
باختصار، لم ينجح الانتشار العسكري الأمريكي والاوروبي ولا العقوبات الدولية في تحقيق أي ردع فيما تصاعدت الهجمات الحوثية.
وفيما لم تتمكن الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون من ردع الحوثيين، امتنعت القوى الإقليمية الرئيسية المطلة على البحر الأحمر، مثل مصر والسعودية، عن تصدر مشهد المواجهة نيابة عن الأمريكيين، على عكس ما كان يحدث في العقود الماضية.
وبينما يمثل الحوثيون ملفاً معقداً بالنسبة للولايات المتحدة فإنهم فعلياً لا يأبهون بالتهديدات أو الاستهداف المباشر، ولا يتراجعون عن خياراتهم مهما كانت الأثمان، كما انهم ليسوا طامعين في أي إغراءات أمريكية آنية أو استراتيجية.
“سر فك شيفرة البحر الأحمر” ما يزال علامة استفهام كبيرة بالنسبة لواشنطن ؛ فلم تجد الولايات المتحدة ولا حلفاؤها الغربيون ولا حتى إسرائيل حلاً عملياً لهذه المعضلة حتى اليوم ، وتبدو واشنطن وكأنها آثرت الحياد، بانتظار أن يتمكن أي طرف ـ أياً كان ـ من لوي ذراع الحوثيين، وهو ما لم يحدث حتى الآن
الخلاصة:
لم تعد القوة البحرية الأمريكية الضاربة هي من تفرض قواعد الاشتباك وتشكل واقع السيطرة النارية البحرية. حتى حاملة الطائرات التي بسطت واشنطن عبرها نفوذها في القارات لم تعد صاحبة الكلمة الفصل في فرض السيطرة.
ورغم أن من المفيد امريكياً وغربياً هندسة منظومة خليجية شاملة في المستقبل القريب، تكون مدعومة بالذكاء الاصطناعي ورادارات وأجهزة استشعار مرتبطة رقمياً مع أنظمة اعتراض متقدمة، إلا أن ذلك يبقى حبراً على ورق، خصوصاً وأن واشنطن لم تعد صاحبة المبادرة بالخطوة الأولى في معارك المنطقة، فيما يتآكل عصر الهيمنة الأمريكية على القرار العالمي بصورة كبيرة ومتسارعة.
دبلوماسياً، على الولايات المتحدة الإبقاء على قنوات اتصال غير مباشرة مع أطراف حليفة للحوثيين، وعلى رأسها إيران وبعض دول الخليج المتسقة معهم.
أما عسكرياً، فلا واشنطن ولا شركاؤها الإقليميون أو الغربيون قادرون حتى الآن على رسم قواعد اشتباك مع الحوثيين، سواء بضمهم لتحالفات متماهية مع السياسات الغربية والخليجية، أو بوضع خطوط حمراء واضحة، إذ يظل الحوثيون حتى اللحظة غير مقروئين وغير مخترقين من أعدائهم.