كل ما يجري من حولك

الغزيون يصنعون من الأرز خبزاً| الرحى تعودُ من رَمَادِ النكبة

65

متابعات..| تقرير*

يواجه سكان غزة مجاعة تزداد قسوة، يوماً بعد آخر، مع إغلاق معظم المحال التجارية أبوابها بسبب نفاد البضائع والغذاء لديها، فيما أغلقت كافة المخابز ومعظم تكيات الطعام الخيرية أبوابها مع دخول الحصار الإسرائيلي الشامل شهره الثالث، إذ تقول وكالات الإغاثة الدولية إن إمدادات الدقيق نفدت بالكامل حتى أصبح الناس يعانون من سوء تغذية حاد.

وفرضت دولة الاحتلال الإسرائيلي الحصار في 2 آذار الماضي بإغلاق معبر كرم أبو سالم التجاري ومنع إدخال البضائع والغذاء لسكان القطاع، ثم انتهكت وقف إطلاق النار، الذي استمر شهرين، باستئناف العدوان العسكري على القطاع في 18 آذار.

وأعلنت مصادر طبية، مؤخراً، ارتفاع عدد الوفيات بين الأطفال نتيجة سوء التغذية إلى 57، مشيرة إلى أن أطفال القطاع «أصبحوا بلا مأوى، ويعيشون أوضاعاً كارثية في أماكن النزوح»، مجددةً النداء العاجل لأحرار العالم، «بأن إنقاذ أطفال غزة ليس خياراً بل هو واجب إنساني».

وكانت «منظمة الأمم المتحدة للطفولة» (يونيسف) حذرت من أن أكثر من 96 بالمئة من النساء والأطفال في غزة باتوا عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية.

  • (أ ف ب)
    (أ ف ب)

في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، كانت أم محمد البيك (42 عاماً) تجلس على الأرض أمام رحى يدوية مهترئة ورثتها عن والدتها. تدفع ببطء حفنة من حبات الأرز اليابسة إلى داخلها، وتبدأ في طحنها، بحذر وصبر، بينما يتطاير الغبار الأبيض حولها. إلى جانبها، وعاء صغير من المعكرونة المجففة تنتظر دورها لتتحول هي الأخرى إلى ما يشبه الدقيق.

تقول البيك لـ«الأخبار»: «نفد منا الطحين منذ أكثر من أسبوعين، ولم أعد أملك سوى بقايا كيس أرز وكيلو من المعكرونة. طحنتهما لأن لا شيء يشبع الأطفال كما الخبز، حتى لو لم يكن بطعمه المعتاد».

تسكت برهة، تنظر إلى أطفالها الثلاثة الجالسين حول الموقد الصغير الذي أعدته من حجارة وأسياخ حديدية، ثم تتابع: «لم نذق الخبز منذ ثلاثة أيام، وكل ما أحاول فعله هو منحهم لقمة تُسكّن الجوع في بطونهم. أصبحنا نطحن كل ما نملك، أرز، عدس، مكرونة… في غزة لا يوجد شيء آخر».

تشير بيدها إلى كيس صغير يحتوي ما أنتجته من دقيق الأرز والمعكرونة، وتقول: «الدقيق الذي كنا نشتريه بـ50 شيقلاً صار بـ1500 شيقل -بما يعادل راتب موظف حكومي غزي- إن وجدته أصلاً. أنا لا أملك هذا المبلغ، فكيف أطعم أولادي»؟

ومنذ بداية العام، تلقى أكثر من 10,000 طفل العلاج من سوء التغذية الحاد، وفقاً لـ«منظمة الصحة العالمية». وشهد شهر آذار زيادةً ملحوظةً، حيث سُجِّلت 3,600 حالة، بزيادة قدرها 80% مقارنةً بـ 2,000 طفل في شباط، وفقاً لـ«اليونيسف».

أقايض الزيت بالطحين

في حي الزيتون المدمر شرق مدينة غزة، يمشي يوسف اشتيوي (45 عاماً) يومياً حاملاً عبوة زيت قلي بلاستيكية كبيرة، يجول بها من شارع إلى آخر، باحثاً عن شخص يرضى بمقايضتها بكيلو دقيق.

يقول اشتيوي، وهو يجلس على حجر أمام منزله المهدّم جزئياً، لـ«الأخبار»: «عرضت خمس لترات من زيت القلي مقابل كيلو طحين فقط. كيلو لا يكفي أسرتي المكونة من ستة أفراد لأكثر من وجبة واحدة، ومع ذلك لم أجد من يرضى بالمقايضة».

ينظر إلى الزيت الذي أصبح لا طائل منه في بيته بعد اختفاء أغلب المواد الغذائية، ويضيف: «لم يعد لدينا ما نحتاج إلى قليه. لا بطاطا، لا بيض، لا خبز حتى. الخبز هو أولويتنا الآن، لأنه الشيء الوحيد الذي يشعر الأطفال بالشبع… لو أطعمتهم أرزاً أو حساءً خفيفاً، يعودون بعد ساعة يبكون من الجوع».

يروي اشتيوي كيف تغيرت حياة عائلته منذ بدء الحرب والحصار: «الطحين اختفى من الأسواق. لم نأكل لحماً منذ أشهر، الفواكه غير موجودة، والخضروات؟ أسعارها نار، كيلو الخيار بـ30 شيقل والبندورة بـ25، من يقدر يشتريها؟ فقط من بقي يملك المال».

ينظر اشتيوي إلى طفله الأصغر، الذي لم يتجاوز الخامسة، وقد بدت على وجهه علامات الهزال وسوء التغذية، ثم يقول: «أشعر بالعجز. لا أطلب سوى القليل من الطحين لأخبز لهم ما يسد جوعهم. لم أعد أطمح إلى أكثر من ذلك».

  • (أ ف ب)
    (أ ف ب)

جفاف وفقدان للوزن

في عيادة بسيطة تتبع لوكالة «الأونروا» غرب مدينة غزة، يجلس د. عادل أبو ريدة خلف مكتبه حيث تتكدّس ملفات طبية لأطفال ونساء يعانون من سوء تغذية حاد. منذ أسابيع، ازدادت أعداد الحالات بشكل مقلق، ومعظمها من عائلات نازحة تعيش في خيام أو مدارس الإيواء.

يقول أبو ريدة لـ»الأخبار»: «نحن أمام كارثة صحية حقيقية. المجاعة باتت واقعية في قطاع غزة، خصوصاً بين الأطفال دون سن الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات. الأجسام بدأت تضعف، ومظاهر الهزال ونقص الوزن الحاد أصبحت واضحة بشكل لا يمكن إنكاره».

ويتابع: «في كثير من الحالات، يصل الطفل وقد فقد أكثر من 15٪ من وزنه الطبيعي. بعضهم يعاني من فقر دم حاد بسبب النقص الحاد في الحديد، وآخرون تظهر عليهم أعراض نقص الفيتامينات، خاصة فيتامين (A) و(د)، نتيجة انعدام التنوع الغذائي الكامل».

ويشير أبو ريدة إلى أن انعدام توفر الطحين، وفقدان الحليب ومشتقاته، أدى إلى ارتفاع مستويات القلق الطبي، ويضيف: «نقص الخبز يعني فقدان أحد أبرز مصادر الكربوهيدرات والطاقة للأطفال. ومن دون بدائل متوفرة، تتدهور الحالة الصحية بسرعة، ونشهد تزايداً في حالات الإسهال والالتهابات وضعف المناعة».

ويحذر الطبيب أبو ريدة من أن «المجاعة إن استمرت، فإننا مقبلون على ارتفاع حاد في معدلات الوفاة بين الأطفال والرضع»، مطالباً بتحرك عاجل لإدخال الغذاء والدواء إلى القطاع، قبل أن «يفقد هذا الجيل فرصته في النجاة».

* الأخبار
You might also like