كل ما يجري من حولك

هكذا يُعَادُ رسمُ حدود النفوذ: «جمر» الساحل السوري

68

متابعات..| تقرير*

كشف زلزال 8 كانون الأول 2024 عن بنية سورية بالغة الهشاشة، مجتمعية وثقافية وسياسية، لعلّ أخطر ما فيها أنها مهّدت لحالة «افتراقية» في ما بين تلك البنى، تكاد تصل، بفعل تسارع الأحداث، إلى مستوى من القطيعة، رغم الإصرار المعلن من جانب جميع الأطراف على نفي وجود رغبات لديها في الدفع نحو هذا المسار. ولربما كانت الارتدادات الحاصلة في الساحل، في ذلك السياق، الأشدّ وقعاً، لاعتبارات عدّة، أبرزها الارتباط العضوي لشرائح واسعة من سكانه بكيان الدولة، مدنياً وعسكرياً، علماً أن الارتباط المذكور لا يعكس توجهاً عاماً، لا عند السكان ولا لدى الدولة، بقدر ما يتّصل بعوامل اقتصادية ومعيشية بالدرجة الأولى.

ومن الطبيعي أن يؤدي فعل كان يمثل انقلاباً شاملاً على مجموعة القيم والأفكار والمفاهيم التي سادت لمدة تزيد على ستة عقود، إلى حال من التشنّج والاحتقان التلقائيين، فكيف إذا تجاوز الأمر ما تقدّم ليبلغ حدود «تهديد الوجود»، والذي برز وما يزال، منذ أيام 7 و 8 و9 آذار المنصرم.

حراك ما بعد المجازر

مع انقضاء «آذار الأسود»، تمركز الحراك، في انعكاس للصبغة الدينية الطاغية على السلطة القائمة، حول محاولة استصدار فتوى بـ«تحريم دماء العلويين». وكان أول من دعا إلى ذلك، المحامي عيسى إبراهيم، المعارض لنظام الأسد، وحفيد الشيخ صالح العلي الذي كان من أبرز قيادات الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي.

وإذ بدا أن دعوته لاقت آذاناً صاغية لدى الطرف الآخر، ترجمتها مثلاً «النصيحة» التي أسداها مفتي دمشق وعضو مجلس الإفتاء، الشيخ عبد الفتاح البزم، إلى المجلس بـ«وجود مصلحة وطنية في استصدار فتوى من هذا النوع»، فإن الاعتراضات كانت الراجحة داخل «الإفتاء»، بفعل الثقل الذي يحظى به التيار «السلفي التكفيري»، إلى جانب حسابات سياسية تتخوّف من أن تؤدي هذه الخطوة إلى «تقويض الثقة بين المجلس والسلطة والجيش»، وفقاً لما كشفه لاحقاً أحد أعضاء المجلس.

وعلى خطّ مواز، كانت التجمعات والتيارات التي تكاثرت كما «الهيدرا» في الساحل بعيد سقوط النظام، تطالب بإنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة بشأن أحداثه، بعيداً من تلك التي أعلنت دمشق تشكيلها، والتي اتُهمت بأنها «عاجزة بنيوياً عن أن تفي بالغرض الذي أنشئت لأجله»، وفقاً لما ورد في بيان لـ«تجمع سورية الديموقراطية» كان قد أصدره الأخير في أعقاب الإعلان عن الأسماء التي احتوتها اللجنة.

تمددات روسية بصمت

بصمت كامل، ومن دون صخب أو تصريحات علنية، تمارس روسيا دوراً يبدو أقرب إلى إحداث تحولات على الأرض، انطلاقاً من «حدود الدم» التي ارتسمت على تخوم «آذار الأسود». وفي وقت باتت فيه الدوريات العسكرية الروسية شبه معتادة على طريق جبلة – بانياس، سُجّل إسقاط الطيران الروسي طائرتين مسيّرتين، على الأقل، فوق الساحل، خلال أسبوع واحد.

كذلك، تؤكد مصادر محلية، في حديثها إلى «الأخبار»، أن قاعدة حميميم بدأت توقيع عقود مع ضباط سابقين في الجيش السوري المنحلّ، بينما أعلنت القاعدة، يومَي 24 و25 نيسان الجاري، «استقبال المئات من النازحين الجدد بعد تصاعد الجرائم ضد المدنيين على خلفية التحشيد والتحريض الطائفي الذي تقوم به جهات معروفة». وتشي هذه المؤشرات بأن روسيا تعمل فعلياً على رسم خرائط السيطرة وتقاسم النفوذ، وفقاً لتكتيك «الدب البطيء الحركة»، والذي لا يثير صخباً كثيراً في ممارساته، في ما قد يكون مدفوعاً بتوافق إقليمي – دولي.

ويبدو التحرك الروسي هذا محصّناً من الاعتراض الإسرائيلي، بل قد يحظى بقبول ضمني من تل أبيب التي ترى فيه حائط صدّ أمام التمدد التركي الماضي نحو التماس المباشر معها. أيضاً، قد لا تمانع واشنطن الدور المذكور، وفقاً لما يُفهم من خلوّ «الشروط الثمانية» الأميركية المقدَّمة إلى دمشق من أيّ إشارة إلى الوجود العسكري الروسي في سوريا.

الاستثمار في مشروع «الإدارة الذاتية»

قبل 4 أيام، أصدر رامي مخلوف، رجل الأعمال السوري وابن خال بشار الأسد، بياناً صادماً، أعلن فيه تشكيل 15 فرقة عسكرية تحت لواء «قوات النخبة»، بتعداد يناهز 150 ألف مقاتل، مدعومين بلجان شعبية «تضمّ نحو مليون شخص» لرفد ما سمّاه «إقليم الساحل».

وجاء أيضاً في البيان الذي حمّل فيه صاحبه مسؤولية «سقوط سوريا» لما سمّاه «الأسد المزيف»، أن ذلك السقوط «لم يبعدنا ومن معي من رجال الحق، وعلى رأسهم صديق روحي القائد النمر (سهيل الحسن)». والواقع أن ما يحمله بيان مخلوف، بين السطور، لا يظهر «تهديداً عسكرياً» بقدر ما يستبطن رسالة إلى الخارج بأن «الإقليم» الذي أشارت إليه الولايات المتحدة، في تصريحات متعدّدة لا يمكن لها أن تكون اعتباطية، باسم «سوريا الغربية»، بات مستكملاً لشروط امتلاكه حيثيةً ما، في موازاة التجربة الماثلة في الجزيرة السورية منذ عام 2015، والتي تمثّلت بدايتها بإطلاق اسم «شمال شرق الفرات» على هذه الأخيرة.

ولربّما لم يكن مصادفة أن يتزامن صدور هذا البيان مع انعقاد «مؤتمر الحوار الكردي» في القامشلي، والذي خلص إلى رؤية مفادها أن سوريا الجديدة يجب أن تكون «دولة لا مركزية تضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة بين المركز والأطراف»، ما يشي بأن تحرّك مخلوف لا يعدو كونه محاولة للنسج على منوال «الكونفرانس الكردي» آنف الذكر، واستباق ترتيبات دولية قيد التشكل.

ماذا عن دمشق؟

في ظلّ هذا المشهد، يقف الرئيس السوري في المدة الانتقالية، أحمد الشرع، فوق أنقاض دولة مهشّمة، تتناوشها الكثير من المطامع ومحاولات الإمساك بقرارها. وفي الوقت الذي تتكثّف فيه الضغوط عليه من كل حدب وصوب، يرى هو أن اتخاذ وضعية الاستعداد للحاق بـ«اتفاقات ابراهام» التطبيعية سيكون «سبيلاً وحيداً وكافياً» لإبقاء بلاده موحّدة، وفقاً لما نقل عنه، أخيراً، عضو الكونغرس الأميركي، مارلين ستوتزمان. غير أن ما يغيب عن حساباته أن تلك الاتفاقات قد صُمّمت على مقاسات يستحيل أن تناسب «البدن» السوري، لاعتبارات أقلّها أن دواخل هذا الأخير ما تزال ترى في فلسطين «جنوبها المحتل».

* الأخبار
You might also like