رحلة ورقة نقدية ممزقة في أسواق غزة
متابعات..| تقرير*
يواجه قطاع غزة مشاكل مصرفية كبيرة بسبب امتناع الاحتلال عن إدخال عملات ورقية جديدة (من الويب)
في سوق الزاوية الشعبي وسط مدينة غزة، وقف محمد خليل، رجل خمسيني من حي الشجاعية، يُقلّب ورقة نقدية من فئة مئة شيقل، وقد بدا عليها التمزق والاهتراء. لم يحمل في جيبه غيرها، وكان يأمل أن يشتري بها بعض الخضروات لإعداد وجبة تسد رمق أسرته، غير أن رحلته بين الباعة لم تثمر سوى عن خيبةٍ تلو الأخرى.
«كأنني كنت أحمل ورقة لا قيمة لها»، يقول خليل لـ «الأخبار»، وهو ينظر إلى الورقة المهترئة التي قبض عليها بقوة وكأنما يتمسّك بالأمل الأخير، «خمسة باعة رفضوا قبولها. أحدهم قال لي: هذه الورقة ميتة، لا تُطعمك ولا تُطعم غيرك».
وبعد محاولات مضنية، وافق أحد الباعة على أخذها، ولكن بشروط مجحفة. يوضح خليل: «قال لي إنه سيحسب قيمتها بستين شيقلًا فقط، أي بخسارة أربعين في المئة من قيمتها، لمجرد أنها ممزقة من طرفها».
خليل، الذي يعمل في مصنع للخياطة ويتقاضى راتباً شهرياً لا يتعدى 700 شيقل، حصل على هذه الورقة ضمن مستحقاته الشهرية. ويشير إلى أن «معظم الأوراق التي نتقاضاها تالفة، ولا يوجد أي جهة رسمية تستبدلها بأوراق جديدة. كنا في السابق نفرزها ونستبدل الرديء، أما اليوم فلا خيار أمامنا سوى القبول بما يُعطى، مهما كانت حالته».
عاد خليل إلى منزله خالي الوفاض، محتفظاً بالورقة داخل محفظته البالية، لعلّه يجد من يستطيع ترميمها مقابل أجر رمزي، ويُعيد لها جزءاً من قيمتها الضائعة. يختتم خليل حديثه لـ«الأخبار» بأسى: «ليتني أستطيع أن أرمم الحياة كما تُرمَّم الورقة. نحن نعيش هنا على حافة الانهيار، حتى النقود باتت ترفضنا».
ترميم يدوي لتفادي الخسارة
يواجه قطاع غزة مشاكل مصرفية كبيرة بسبب امتناع الاحتلال الإسرائيلي عن إدخال عملات ورقية جديدة إليه منذ بداية الحرب. وسط هذه المعضلة، برزت مهنة غير معتادة في الأسواق الشعبية والأحياء المكتظة، تتمثل في «ترميم العملات التالفة» يدوياً، يقوم بها أفراد بوسائل بسيطة كالشريط اللاصق والغراء والمقص، مقابل عمولة رمزية تتراوح بين شيقلين إلى خمسة شواقل للعملة الواحدة.
أمام بسطة صغيرة من الخشب المهترئ، يجلس حسام أبو داود على كرسي بلاستيكي منخفض، في سوق أبو اسكندر الشعبي شمال مدينة غزة، وإلى جانبه صندوق أدوات بسيط، يضم مقصاً وشريطاً لاصقاً شفافاً وعبوة صغيرة من الغراء وقماشاً قطنياً للتنظيف. وعلى الطاولة المتهالكة، تتراكم أوراق نقدية من فئات مختلفة، تنتظر «العلاج».
في مشهد يومي مألوف، يصطف أمام أبو داود عدد من المواطنين، كل يحمل في يده ورقة ممزقة أو باهتة اللون، يترقّب دوره بقلق. بعضهم جاء يحمل أوراقاً متعددة، وآخرون يراقبون العملية بدقة، ليتعلموا كيف يمكنهم ترميمها بأنفسهم إن اضطروا.
يمسك أبو داود (32 عاماً) بورقة نقدية من فئة خمسين شيقلاً، ممزقة من الوسط. يمدّها على الطاولة بلطف، ثم يبدأ بتنظيفها بقماش ناعم لإزالة الأوساخ والعرق. بعدها، يقص قطعة من الشريط اللاصق بدقة، ويثبتها من الجهة الخلفية للورقة، قبل أن يكرر العملية من الجهة الأمامية. يضغط بأطراف أصابعه برفق لتثبيت اللاصق، ثم يعرضها على الزبون وهو يبتسم: «جاهزة… لا أحد سيلاحظ التمزق إلا إذا دقق جيداً».
يقول أبو داود لـ«الأخبار» إنه بدأ ممارسة هذه المهنة قبل عدة أشهر بعدما لاحظ تكرار شكاوى الناس من رفض التجار التعامل بالعملات المهترئة. «أستخدم أدوات بسيطة، وأحاول، قدر الإمكان، إعادة الورقة إلى شكلها القابل للتداول. الزبائن يأتون إليّ لأنهم لا يريدون خسارة قيمة عملاتهم، وبعضهم يأتي بورقة ممزقة من المنتصف، وأقوم بلصقها بدقة».
ويضيف: «أقوم يومياً بمعالجة ما بين 30 إلى 50 ورقة نقدية. الناس مضطرون، فلا أحد يريد أن يخسر قيمة المال الذي يملكه لمجرد أنه ممزق. بعض الزبائن يأتون من مناطق بعيدة، لأنهم سمعوا أنني أجيد هذا العمل بدقة».
تطبيقات بنكية لا ترحم
في ظل شح السيولة النقدية ورفض التجار التعامل بالعملات المهترئة، لم يجد كثير من الغزيين بديلاً سوى اللجوء إلى التطبيقات البنكية الإلكترونية، التي تتيح التحويل والدفع عبر الهاتف. ورغم أن هذه التطبيقات ساعدت، جزئياً، في تيسير المعاملات في مرحلة سابقة من هذه الحرب، إلا أن التعامل بالشراء الإلكتروني، في الوقت الراهن، أصبح غير مرغوب فيه من قبل معظم التجار في غزة منذ إغلاق إسرائيل معبر كرم أبو سالم التجاري وبالتالي توقف إدخال البضائع إلى القطاع.
بدوره، يقول سامي النجار، وهو موظف لدى السلطة الفلسطينية لـ«الأخبار» إنه اضطر لتحويل راتبه من خلال أحد التطبيقات البنكية ودفع جزء من المبلغ لأحد أصحاب محال الصرافة ليستلمه نقداً… «ذهبت لأتقاضى راتبي البالغ 3000 شيقل نقداً من محل صرافة، فسلمني إياه 2000 شيقل فقط، أي بعمولة بلغت 30% من قيمة الراتب. هذا ليس تحويلاً مالياً، بل استغلال وابتزاز ممنهج للناس».
ويضيف: «كنا نأمل أن تعوض المصارف هذا الفراغ، أو تضخ كميات نقدية جديدة، أو على الأقل تضع ضوابط للعمولات المجحفة، لكن لا أحد يتحرك. حتى البنوك باتت جزءاً من الصمت، وكأنها تترك السوق للابتزاز».
أزمة متفاقمة وبنوك عاجزة
يُرجع الخبير الاقتصادي، محمد أبو جياب، أزمة العملات الورقية المهترئة وارتفاع الاعتماد القسري على التطبيقات البنكية في قطاع غزة إلى «حالة من الشلل النقدي الكامل» نتيجة توقف النظام المالي الطبيعي بفعل الحرب والحصار، ومنع الاحتلال إدخال السيولة الجديدة أو استبدال التالفة منها.
ويقول أبو جياب لـ«الأخبار» إنّ العملة الورقية المهترئة «أصبحت عبئاً على المواطنين بسبب رفض التجار لها، في حين أن البنوك لا تملك آليات للاستبدال، ما دفع الناس إلى اللجوء إلى حلول بدائية كترميم الأوراق المهترئة، وهو مؤشر خطير على انهيار المنظومة النقدية الأساسية».
ويضيف: «في المقابل، ازداد الاعتماد على التطبيقات البنكية، لكن هذه التطبيقات تحولت من وسيلة تسهيل إلى وسيلة استغلال، بسبب غياب الرقابة المالية وارتفاع العمولات التي وصلت، في بعض الأحيان، إلى 30%، ما يُعتبر شكلاً من أشكال الابتزاز الاقتصادي تحت غطاء الأزمة».
ويرى أبو جياب أن دور البنوك في غزة لا يزال «ضعيفاً وهامشياً»، ولا يتناسب مع حجم الأزمة، مشيراً إلى ضرورة تدخل فوري من سلطة النقد الفلسطينية والمؤسسات المالية لإيجاد حلول واقعية، سواء من خلال ضخ سيولة بديلة أو دعم آليات استبدال العملات المهترئة، وفرض رقابة مشددة على التعاملات الإلكترونية بما يضمن عدالة التسعير ومنع الاستغلال.