مرضى غزة تحت وطأة المماطلة الإسرائيلية: علاجٌ مؤجَّلٌ وحياة مهددة
متابعات..| تقرير*
يقف الفتى محمود شامية (16 عامًا) أمام المرآة، يحاول أن يتلمس ملامحه بيده اليمنى، بينما تغرق عينه اليسرى في ظلام لا يبدده ضوء. لم يكن يدرك قبل عام أن نظراته ستنطفئ في عين واحدة بعد إصابته خلال الحرب، حين سقطت شظية صغيرة في عينه أثناء قصف إسرائيلي على منطقته في غزة في يناير 2024. لم يكن الجرح عميقًا في البداية، لكن مع انعدام الرعاية الطبية اللازمة، تحوّل الألم إلى كارثة.
عجز الأطباء في غزة عن تقديم تشخيص دقيق لحالته بسبب افتقار المستشفيات للأجهزة اللازمة، فقد استهدف الجيش الإسرائيلي معظم المنشآت الصحية وأخرجها عن الخدمة. وبينما كان شامية بحاجة إلى فحوصات متقدمة وعلاج عاجل، كانت غرف العمليات تغرق بالجرحى، ولم يجد الأطباء أمامهم سوى تقديم مسكنات لم تعد تجدي نفعاً.
«الأطباء قالوا لي إن حالتي قد تتفاقم، وقد أفقد بصري بالكامل إن لم أعالج سريعاً»، يقول محمود بصوت يختلط بالخوف لـ«الأخبار». حصل على تحويلة طبية للعلاج في الخارج، لكنه عالق على قوائم انتظار السفر عبر معبر رفح، حيث تتحكم الإجراءات الإدارية والقيود الإسرائيلية في حركة المرضى.
يعيش شامية في قلق مضاعف، فهو لا يخشى فقط رفض إسرائيل منحه تصريح السفر بحجة «المنع الأمني»، بل أن يطول انتظاره وسط الطوابير المتزايدة، خاصة مع وتيرة السفر البطيئة التي لا تسمح إلا لعدد محدود من المرضى بالمغادرة يومياً.
«أشعر أن الوقت يسرقني»، يهمس شامية بينما يجلس في زاوية غرفته، متجنباً ضوء الشمس الذي لم يعد يراه بعينه المصابة. تحاول والدته مواساته، لكن عينيها، المتورمتين من البكاء، تعكسان القلق نفسه الذي ينهش قلبها.
يضيف شامية: «كل صباح، أستيقظ على أمل أن يصلني اتصال يخبرني بموعد سفري، لكن الأيام تمضي بطيئة، ثقيلة، فيما أترقب المصير بين الانتظار وخطر الفقدان الكامل للبصر».
يقول مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، لـ«الأخبار»، إنّ إسرائيل تتعمّد عرقلة مغادرة المرضى والجرحى الفلسطينيين عبر معبر رفح البري، رغم حاجتهم الماسة إلى تلقي العلاج في مستشفيات خارج القطاع. وأوضح أن «إسرائيل تواصل خرق اتفاق وقف إطلاق النار بعرقلة خروج المرضى من غزة، حيث تسمح فقط بسفر ما بين 40 إلى 50 مريضًا يوميًا، رغم أن العدد المطلوب والمتفق عليه هو 150 حالة يوميا».
عراقيل إسرائيلية
في خيمة صغيرة أقيمت على عجل وسط مخيم للنازحين في رفح جنوب قطاع غزة، ترقد رنا هايل (14 عاماً)، مستلقية على بطانية رقيقة لا تقي جسدها النحيل من برد الليل القارس. منذ أكثر من شهرين، تنتظر بفارغ الصبر خبراً يسمح لها بمغادرة غزة عبر معبر رفح لتلقي العلاج من التليف الكبدي، لكنّ الانتظار بات عبئاً لا يطاق، ليس فقط عليها، بل على عائلتها التي ترى ابنتها تذبل يوماً بعد يوم دون أن تستطيع فعل شيء.
تقول السيدة خولة هايل والدة رنا بحسرة لـ«الأخبار»: «لا يوجد الآن أي مستشفى قادر على علاجها. كل ما يمكننا فعله هو إعطاؤها بعض المسكنات التي بالكاد تخفف أوجاعها».
ورغم أن اسم رنا كان ضمن قوائم المرضى الذين يفترض أن يتمّ إجلاؤهم للعلاج في الخارج، إلا أن العراقيل الإسرائيلية حرمتها من السفر حتى الآن. تضيف والدتها: «كل يوم نسمع عن خروج دفعة جديدة من المرضى، لكن عندما نسأل عن رنا، يقال لنا: انتظروا الموافقة. كم ستتحمل؟ جسدها لم يعد يحتمل، والوقت ليس في صالحها».
تعاني رنا من أزمات صحية متكررة، تتراكم السوائل في بطنها بسبب تليف الكبد، وتحتاج إلى عمليات تفريغ دورية لم يعد من الممكن إجراؤها في غزة. ورغم الألم، ما زالت تحاول الابتسام بين الحين والآخر، تحلم بأنها ستعبر المعبر قريباً، وستتلقى العلاج في مكان آمن حيث لا تهتز الأرض تحتها بصوت القصف.
في الأيام الأخيرة، تراجعت حالتها أكثر، «بالكاد أصبحت تستطيع المشي أو حتى الجلوس دون مساعدة، وباتت تغفو كثيرًا من شدة التعب»، تنظر والدتها إلى عينيها الغارقتين وتخشى أن يأتي يوم لا تستطيع فيه إيقاظها، «لا أريد أن تموت هنا، أريد أن أراها تعيش، أن تعود إليّ بعد العلاج وهي تضحك وتلعب كما كانت قبل المرض».
لكن رنا ليست وحدها، فهناك مئات الأطفال مثلها ينتظرون، بعضهم فارق الحياة قبل أن يأتي دوره في القوائم، والبعض الآخر ينتظر في صمت، يتأرجح بين الحياة والموت، فيما يبقى القرار بيد من لا يراهم سوى أرقام على الورق.
إجلاء 600 مريض فقط
ومنذ سريان وقف إطلاق النار في 19 يناير الماضي، تم إجلاء 600 مريض فقط عبر معبر رفح، بينما لا يزال 25000 مريض آخرين في حاجة ماسة للعلاج في الخارج، بحسب الثوابتة، الذي أشار إلى أنّ قوات الاحتلال «تتعامل بانتقائية مع قوائم المرضى، وتمنع سفر بعضهم لأسباب أمنية غير مبررة، رغم خطورة أوضاعهم الصحية».
وأضاف: «إسرائيل رفضت سفر العديد من المرضى، بينهم أطفال يعانون من أمراض خطيرة، مثل السرطان. أحد الأمثلة المؤلمة هو طفل يبلغ من العمر 16 عامًا، كان من المفترض أن يغادر غزة للعلاج، إلا أن الاحتلال منحه منعاً أمنياً وأعاده إلى القطاع، تاركاً إياه يواجه مصيره من دون علاج».
وأوضح الثوابتة أن هذه الإجراءات لا تقتصر فقط على تقليص أعداد المرضى المغادرين، بل تشمل أيضاً التأخير في إرسال الموافقات، ما يؤدي إلى تفاقم حالة المرضى ويعرّض حياتهم للخطر. وقال إنّ «هناك مئات المرضى، بينهم نساء وأطفال، ينتظرون منذ أشهر دورهم للخروج، لكن إسرائيل تتعمد تأخير قوائم الأسماء، ما يزيد من معاناتهم».
وأشار الثوابتة إلى أن العرقلة الإسرائيلية لسفر المرضى تأتي ضمن سياسة ممنهجة تهدف إلى الضغط على القطاع الصحي المنهار في غزة، في ظل استمرار نقص الأدوية والمستلزمات الطبية، وتعطل الأجهزة العلاجية جراء الدمار الذي طال المستشفيات بسبب العدوان الإسرائيلي المستمر منذ أشهر.
وأكد أن الجهات الرسمية في غزة تبذل جهوداً كبيرة بالتنسيق مع المنظمات الدولية، للضغط على إسرائيل من أجل الالتزام بالاتفاقات والسماح بسفر جميع الحالات الطبية الحرجة من دون مماطلة أو قيود تعسفية.
