كل ما يجري من حولك

التهديدُ السريع والتهديدُ الأكثرُ حدّة

التهديدُ السريع والتهديدُ الأكثرُ حدّة

430

بثينة شعبان*

حين يعاني العالم اضطرابات متتالية وعميقة ومتعدّدة، كما يحدث في عالمنا اليوم منذ عقدين على الأقل، يصبح من الضرورة بمكان التفكير بعمق والتأمّل في الأسباب الاستراتيجية البعيدة لما يحدث، واحتمالات تبعاتها والخطوات الحكيمة التي يجب اتخاذها في مواجهتها، كي لا تصبح معالجة التفاصيل أو الظواهر الآنيّة لما يجري البديل من الخطط والأعمال الاستراتيجية المعمقة والبعيدة المدى.

حين بدأت الحرب الإرهابية على سوريا انبرت وسائل الإعلام المغرضة والمتواطئة محاولةً تصوير الأحداث بأنها نتاج مَظلمة هنا أو مطالب محقّة لم يصغِ إليها أحد هناك، ولكن الأيام والسنين كشفت مخططات مدبّرة ومموّلة وآليات عمل مدروسة وممنهجة بتحريض وموافقات إقليمية ودولية مكّنت خلالها الاستخبارات الغربية، بالتسليح والتدريب، عشرات الآلاف من الإرهابيين من الوصول إلى أرضنا الطاهرة وارتكاب جرائمهم الآثمة ضد شعبنا الآمن المسالم، بهدف فرض الهيمنة على بلادنا ونهب ثرواتها وضم أراضيها إلى دول العدوان. وحين أرسلت إيران مستشارين إلى سوريا وأرسل حزب الله المقاوم سنداً لسوريا لمحاربة الإرهابيين كان الطرفان يؤمنان ويصرّحان أحياناً بأن الدفاع عن سوريا دفاع عن إيران وحزب الله. وحين أرسل الرئيس بوتين مستشاريه ودعمه الجوي إلى سوريا صرّح، وفي غير مناسبة، أنه يدافع عن موسكو من دمشق.

وها هي الأيام تبرهن، بما لا يقبل الشك، أن المخطط الاستراتيجي الذي بدأ في سوريا لم يشمل سوريا وحسب، وإنما له أذرع أخرى لضمان الهيمنة الغربية على المناطق الجيوسياسية التي يعتبرونها ضرورية لهم ولأدواتهم، ومن أجل الاستمرار في نهب ثروات البلدان الأخرى والتمدّد في أي اتجاه يرتؤونه كي تكون الليبرالية الاستعمارية الغربية متربّعة على عرش القوة في العالم، وكي لا يتجرّأ طرف على أن يشكّل أي تهديد أو تحدٍّ لهذه الهيمنة الاستعمارية. ولذلك نلاحظ اليوم الربط الذي تقوم به الاستراتيجية القومية الأميركية بين روسيا والصين، فقد صرّح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أن “استراتيجية الدفاع الأميركي تركز على تعزيز الردع المستدام اتجاه الصين” وأضاف: “التركيز الرئيس على الصين باعتبارها التهديد السريع، وروسيا باعتبارها أكثر التهديديات حدة” وفي مكان آخر لحظت استراتيجية الدفاع الأميركية أن العلاقات بين روسيا والصين تتعزز، وأنه “يمكن لأي منهما أن تخلق مشكلات في حالة نشوب صراع مع أي منهما”، وكانت تصريحات أميركية أخرى سابقة قد حذرت أيضاً من الاتفاقيات المبرمة حديثاً بين إيران والصين وإيران وروسيا.

وإذا أخذنا هذه الاستراتيجية الأميركية، التي ولا شك لها تفاصيل معمّقة ومتشعّبة تجاه دول وتحالفات تعتبرها تهديداً للسيطرة الغربية على الكون، وأعدنا النظر في ما يحدث في منطقتنا في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق واليمن وإيران طبعاً، فسوف نكتشف وبما لا يقبل الشك أن الخطط الغربية لهذه البلدان مترابطة ومنسّقة، فيما تجري مواجهتها على جبهات متفرقة وبخطط منفصلة أو متناقضةً أحياناً. وفي هذا السياق فإن ما يرتكبه العدو الصهيوني من جرائم بحق الشعب الفلسطيني والاعتداءات الإرهابية المتواصلة على هذا الشعب الآمن، لابد من أن يجري فهمها في إطار التخطيط الصهيوني والغربي لمستقبل المنطقة برمتها، ومن يعتقد نفسه من العرب في منأى عن هذا الاستهداف فإنه لا شك مخطئ.

فها هو العدو الصهيوني يرتكب أبشع الجرائم يومياً بحق شعب وشباب آمنوا بأنهم أصحاب قضية، والقضية ليست فلسطين وحسب، ولكنها قضية الوجود العربي في هذه المنطقة. وما الحملات التي يشنّها هذا العدو على المناهج الفلسطينية العربية، وتواطؤه مع البعض في دول أخرى لإضعاف دور اللغة العربية وإفراغ المناهج من لغة ومواضيع المقاومة لهذا العدو إلا جزء من استراتيجيته لصياغة مستقبل المنطقة، بما يخدم أهدافه الاستيطانية العنصرية. ومن هذا المنظور أيضاً يجب فهم استمرار الحرب الاقتصادية والعسكرية والاحتلالية على الشعب السوري وعلى وحدة سوريا وسلامة أراضيها، ومن هذا المنطلق أيضاً يجب فهم مجريات الحرب الظالمة على الشعب اليمني البطل ويجب تقدير وتثمين تضحياته ليس من أجل اليمن وحسب وإنما من أجل مستقبل كل الناطقين بالضاد، سواء آمنوا بذلك أم لم يؤمنوا.

وما لفتني في مجريات التمهيد للقمة العربية المزمع عقدها في الجزائر تصريح مندوب الجزائر عبد الحميد شبيرة الذي قال: ” كل الخلافات تهدف إلى تطوير محيط الدول العربية مع إيران من جهة وتركيا من جهة أخرى”، والسؤال هو: ماذا عن تطوير وتعميق وتصحيح وترسيخ العلاقات بين الدول العربية نفسها؟ وماذا عن التقاط المعادلات التي يفرضها الأسرى الفلسطينيون والشباب الفلسطينيون المقاومون وشعب فلسطين في كل أنحاء فلسطين، مضحين بدمائهم وأمنهم ومستقبل أبنائهم؟ ماذا عن اعتبار الشعب الفلسطيني والشعب السوري والشعب اليمني جبهة متقدّمة تدافع عن كرامة هذه الأمة ومصلحة هذه الأمة، التي يجري استهدافها بالعمق وإن يكن بشكل متفرق جغرافياً أو زمنياً؟

لم يكن عنوان “وحدة الساحات” عنواناً موقتاً قطّ، ولم يكن أيضاً مرتبطاً بالساحات الفلسطينية وحدها، ولكنه مرتبط بالساحات العربية والإقليمية والدولية. ولا شك في أن مركزية الاستراتيجية الغربية التي تحاول جاهدة الحفاظ على وحدتها حتى على حساب قوة وتماسك ورفاه بعض دولها كما هي الحال اليوم في الدول الأوروبية، لا شك في أن هذه الاستراتيجية بحاجة إلى استراتيجيات مقابلة تفهم آلياتها وتجترح الآليات السليمة للردّ عليها. هذا ما تفعله اليوم روسيا والصين وإيران ودول ومنظمات أخرى على الساحة الدولية، ولكنّ الساحة الإقليمية في أمس الحاجة اليوم إلى رؤية عربية مستمدّة من الدول والأطراف التي عدّت نفسها صاحبة مبدأ وقضية ونذرت نفسها ومقدّراتها لتحقيق هذا الهدف وعدم المساومة عليه.

إن أمة تمتلك المقدرات التي تمتلكها أمتنا، ووطناً أنعم الله عليه بموقع وتاريخ ولغة وثروات وحضارة، قادر على أن يغيّر المعادلة في الإقليم والعالم، وقادر جداً أن يكون فاعلاً في التحولات الدولية وإرساء أسس مستقبل البشرية، ولا يحتاج من أجل ذلك إلا إلى الرؤية الصائبة والحكمة والرشد في قراءة ومعالجة كل ما يجري، ولكن من منظار كبير واستراتيجي، وليس من مواقع آنية وصغيرة وسطحية.

قال الإمام علي عليه السلام: “من انشغل بصغائر الأمور فاتته كبائرها”. اللحظة اليوم حاسمة للتركيز على كبائر الأمور لأن المستقبل في الميزان. إني أرى في التهديد الذي تتعرض له أمتنا اليوم، وفي بلدان مختلفة وعلى صعد عديدة تهديداً سريعاً وحاداً ومصيرياً، وأن العمل الجاد والمسؤول ضرورة وجودية؛ فهل من مجيب؟

* الميادين نت

You might also like