ما قبلَ ولادة الهادي وما بعدها
نصر الله الأشول
ذكرى الصادق الأمين، الهادي إلى الحقِّ وسائقنا إليه، ذكرى الرسولِ الأعظم، من أرسله اللهُ لهداية عبادِ الله، قبل ولادته كان العربُ يعيشون حياةَ الأنعام بل أقلّ شأناً منها..
أحجارٌ تُعبدُ، وأنفسٌ تُستعبدُ، وَفواحشُ تُصان، تدفن الإناثُ؛ خوفاً من عارٍ ما صنعه إلّا جهلُ قومٍ من زمن الغابرين، فكانوا أجساداً بلا أرواح وأدمغة بلا فكر ولا منطق، كانوا قوماً تائهين، أرفعُهم شأناً مَنْ وقف على أطلال الغواني قبلَ أن يسقط بترنّح أبيات العشق ودواوين الغرام، سكارى صعاليك شريعتُهم الانحناءُ لجمود هبل ورفع سياط التجبّر والاستعباد، فيعاقرون الخمرَ مع كبيرهم ويلصقون الذلّةَ بصغيرهم حتى ضاقت بهم الأرضُ بما رحبت وتاقت لمن يطهّر مسالكها وينقذ سالكيها، ولكُلِّ هذا ومن أجل ذاك رشّحت الرحمةُ سيّدها ونصبت الأخلاقُ متممها وبُعِثَ النبيُّ الأكرمُ ليكرمَ البشريةَ ويهذّبها، يُذهِبُ عنها رجسَ الظلمات، ويلبسها نوراً تلو نور، فلاحاً في الأفق، آفاق عزّة وهدى وعدل وسلام..
وُلِدَ الهدى فاهتزَّ الكونُ طرباً، وسمت السماء ببشرى الرسالة وخاتمها، لقد جاء مَنْ يُخرِجُ الناسَ من عبادةِ العبادِ إلى تقديس وتبجيل ربِّ العباد، جاءنا بأفضل وأرقى وأسمى شريعةٍ على مرِّ العصور، فصرنا بها أعزاء كرماء نتصدّر العالمَ إيماناً وقوّةً وعلماً وثقافةً ورقيًّا؛ ولأنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ قد أخرج الناسَ مما كانوا يغوصون فيه، نحتفل بذكراه، نحتفل بها؛ لاستحضارِ أعظم شخصيّة على مرِّ العصور وَلاستذكار ما عاناه ولاقاه في طريق تحريرِ الإنسان والارتقاءِ به إلى أعلى المستويات وأفضل المراتب.
وفي اليمن يحتفلُ اليمنيون وهم مثخنون بجراحهم، ينزفون من الوريد إلى الوريد، فبعدَ خمس سنوات من حربٍ ضروس لم تبق ولم تذر، وحصار ضاق لجوره الحجرُ قبْلَ البشر، خمسةُ أعوام والركامُ يجرفه ركامٌ، والأشلاءُ تحاصر الأذهانَ من كُـلِّ جانب، ورغم كُـلِّ ذلك، يتناسى اليمنيُّ آلامَه ويدوس على جراحه منطلقاً نحوَ تحقيق المعجزة، وعلى طريق النصر القريب، تعانق السماءُ قبضته وتصدح الأرضُ بصرخته زائراً: لبيك يا رسول الله.. وعلى صدى التلبية المحمديّة تزدهي سيّدةُ العواصم مكتسيةً حلّة الذكرى، فتتحول صنعاءُ إلى درّةٍ من لونين، فلكأنها يثرب طلع البدرُ عليها، أَو لكأنها طيبة بُعِثَ الهادي إليها.
تحلُّ هذه الذكرى فيما لا زال اليمنيون يُنكّلون بالأشرار، يلقّنونهم الدرسَ تلوَ الدرس ويجرّعونهم الكأسَ تلوَ الكأس، فعلى مشارف السعيدة دُفنت جحافلُ الغزاة وعلى سهولها وتبابها ذابَ حديدُ المعتدين وذابَ معه حلمُ تحالفٍ بات قابَ قوسين أَو أدنى من السقوط بهاويةٍ زجَّ بنفسه مغامرا ًعلى حافتها.