كل ما يجري من حولك

حرائق في مملكة الرمال

حرائق في مملكة الرمال

866

متابعات:

قبل الرابع عشر من أيلول كنا نبكي وجه اليمن الحزين، نشتم جلاده وقاطع النخيل ونبحث في عيون اليمنيين عن سيف بن ذي يزن وتاج بلقيس الضائع، نسأل الوطن المطعون في كبريائه وحضارته وأطفاله عن أياد آثمة امتدت لتذبح الحضارة اليمنية وترجم سبأ ومعين وحضرموت، عن طغاة ساووا سعر الأطفال في اليمن بثمن براميل النفط.

خمس سنوات وأسرّة الموت تغص بجثث الموتى والأبرياء، وترسم بدماء الصغار لوحات الخزي والعار على جباه البشرية، وفي بلد قيل فيه «انثروا القمح على رؤوس الجبال كي لا يُقال جاع طير في بلاد المسلمين» يموت كل عشر دقائق طفل يمني جوعاً وظلماً، إلى أن تمكنت أبابيل الطائرات المسيرة المعززة بصواريخ كروز من تغيير المشهد الاستراتيجي وإصابة الغطرسة الأمريكية- السعودية في مقتل وجعلت كيد العدوان في تضليل وأشعلت كرنفالات الحرائق في أرامكو بنار جمع حطبها التحالف السعودي الأمريكي الإسرائيلي، نار وقودها دموع الثكالى ودماء الأبرياء لتعلن بداية عهد جديد لم يظهر منه بعد أكثر من رأس جبل الجليد.

الضربة عرّت السعودية، فهي دولة لا تربح المعارك لأنها مكبلة بسجن الحماية الأمريكية والخيار العسكري لابن سلمان أغرقه في رمال اليمن المتحركة وأظهره ملكاً دونكيشوتياً على حصان خشبي كان حلمه «مئة يوم وترفرف رايات المملكة على جبال صعدة» ولكن الحلم تحول إلى كابوس طويل مع احتراق منشآت أرامكو لأنها الجوهرة الأهم في تاج المملكة.

الجرح السعودي لن يبرأ سريعاً ومن يسمع صراخ الملك: منشآتنا تتحطم، براميلنا تحترق.. وتاجنا يهوي يدرك جيداً أن بقاءه على عرشه مرتهن بعدد آباره النفطية، فإذا كانت غارة لبضع طائرات مسيرة قد أدت إلى تعطيل نصف إنتاج السعودية من النفط فماذا لو دخلت المملكة في حرب مزلزلة تواجه فيها مئات آلاف الصواريخ والطائرات.. يهمس ترامب في أذن ابن سلمان بعد أن استجداه الأخير بإشعال فتيل الحرب ضد إيران.. لكن ترامب أدار ظهره للملك المكسور سياسياً واقتصادياً ملتفتاً إلى نفطه الاستراتيجي، ومطالبة ولي عهد الرياض بإرسال قوات تعوض انسحاب إحدى الدول من التحالف ترتطم بصخرة الكونغرس وقد تتحطم عليها فمجلس الشيوخ مرر قرارات بمنع دعم الرياض ضد اليمن.

يوم أسقطت إيران الطائرة الأمريكية وطعنت ترامب في هيبته لم يجرؤ على اتخاذ أي خطوة تجاه إيران، فهل يفعلها اليوم من أجل بقرة حلوب؟ إن في استهداف أخطر مرفق اقتصادي سعودي دولي وبنقل المعركة إلى داخل العمق السعودي رسالة واضحة مفادها: تدفق النفط بهرمز وباب المندب يخضع لإرادة أصحاب الأرض وأبنائها.

الضربة موجعة للأمن السعودي، واليمنيون يلعبون بالمزاد على توقيت طرح السعودية لأسهم ارامكو فأي غبي يقدم على الاستثمار في بيئة غير آمنة بعد اليوم؟.. وإذا كانت المقاومة اليمنية الممثلة بالجيش واللجان الشعبية قد تمكنت من قطع وريد السعودية السياسي والاقتصادي، وعطلت الحصول على ترليوني دولار عوائد أسهم أرامكو للبيع خلال سنوات فإن الإدارة الأمريكية تراجع حساباتها في الشأن السعودي بعد أن أثبتت المملكة فشلها في أداء مهامها الموكلة إليها ووقعت في فخ معركة استنزاف استهلكت رصيدها السياسي والعسكري والأخلاقي.

عشية العملية البطولية المذهلة امتزجت أصوات من صمدوا وضحوا وعبدوا طريق النصر بدمائهم بصوت جدهم العربي «اليمن بن قحطان» ليخبرنا أن بلاداً ردت العثماني عن أبوابها قادرة اليوم على هزيمة عدوها فلا المليارات والمؤامرات ولا الأسلحة المتطورة الشرهة للفتك بالأبرياء قادرة على كسر بلاد الخير والبركة، واليمن اليوم هو اليد العليا ولديه القدرة للوصول لأي هدف يريده في مكان وزمان يقررهما، فهل يتعظ أصحاب عاصفة الحزم بعد أن حولها أحرار اليمن إلى نسمة تائهة في مهب رياح المقاومة الحرة الأبية؟

السعودية لم تتمكن من حماية حدودها ولم تهزم اليمنيين ولم تسر بحلفائها في اليمن نحو النصر لذلك، فإن الضغط لإنهاء الحرب على اليمن هو ضغط يأتي لمصلحة السعودية أولاً، لأن الحرب تضعفها وتبتزها وتكرس صورتها الإجرامية فقد أثقل ظهر المملكة مستند ثقيل في ملف جرائم الحرب والعنف السعودي تحت مقصلة المحاسبة اليوم مفتاحها رأس الخاشقجي.

يثبت اليمن اليوم أنه ليس حديقة خلفية لمملكة النفط الكبرى وقد يعيش اليمني فقيراً ويكتفي بأقل من وجبة في اليوم ويحتمل ظلم الحرب لكنه يبقى عزيز النفس، وسياسة التجويع والقتل الجماعي لن تحيده عن طريق المطالبة بحق تقرير المصير.

تراقب «إسرائيل» لهيب أرامكو وانكسارات المملكة بحذر، فطالما قدمت السعودية نفسها حارساً فرعونياً على أمن «إسرائيل» ووقفت في الخندق الإسرائيلي وباركت «صفقة القرن»، و«إسرائيل» تدرك أن هناك تغييراً جذرياً في المعادلة السائدة في البحر الأحمر ورسائل القرار الذي أنتج العملية النوعية للمقاومة اليمنية لها وقعها المدوي في تل أبيب فالكيان قلق من أن هذه الضربة ستؤدي إلى تعزيز قوة محور المقاومة وخائف من تدحرج كرة الانتصارات من أرض البخور والعنبر إلى أرض البرتقال الحزين، هي مواسم النصر تؤرّق «إسرائيل» وتقضّ مضجعها في ليالي أيلول المبارك.

غرق النظام السعودي في مستنقع اليمن حتى فاحت رائحة أفعاله، وزرع بذور الكراهية حتى احترق بلهيب أحقاده، وغطى الدخان قصوره وممتلكاته وظن أنها أيام ويمتلك أرض اليمن ومَنْ عليها.. لكن الأيام امتدت سنوات وكوارث وخيبات.

في كل زقاق يمني كتبت تفاصيل الألم تحت قصف الطائرات والمدفعيات السعودية فكانت النهاية عزة لمن تحت الأنقاض ولعنة الدهر لمن تخاذلوا فوق الأرض العربية.

(محمود الشاعر – سوريا)

You might also like