تصدّعٌ مخيفٌ في إمبراطورية آل سعود!
د. وفيق إبراهيم
يبدأ الانهيارُ عادةً، بتصدعات وتفسُّخٍ تؤدي ببطء إلى تداعي البناء بكامله.
السعوديةُ أَيْـضاً بناءٌ جيوسياسي أسّسته على مرحلتين أَوَّلاً المخابراتُ البريطانية في النصف الأول من القرن العشرين وعاودت المخابراتُ الأمريكية بعد سيطرة بلادها على السعودية بدءاً من 1945، ضخَّهُ بوظائفَ جديدةٍ تستعملُ «النفطَ الديني» للسيطرة على العالمين العربي والإسلامي.
هذا الإبداعُ في خلق الوظائف انتصب على أَسَاس تجميدِ الجانب الداخلي السعودي وضبطه عند حدود «رقصة العَرضَة» وغزو القبائل في الجاهلية والتنويم الديني ونظام السمع والطاعة والإعدام بالسيف لكل معترض حتى «بالتويتر» أَو بالهمهمة.
هذه الوظائف يترأسُها النفطُ الوفير بغزارة والذي يغطي حاجاتِ آل سعود لإنفاقاتهم العائلية والحد الأدنى من حاجات الناس، مع مساحة واسعة جِـدًّا للنهب الغربي المنظم لواردات النفط السعودي بأشكال ترتدي لبوسَ بيع أسلحة وصفقات اقتصادية بالظاهر، أما في عمقها فهي سرقاتٌ بموافقة آل سعود؛ لتأمين حماية غربية لهم.
تلي الوظيفةَ النفطية الاقتصادية الأهميّةُ الدينية للحجاز بما يحتويه من مدن مقدسة في مكة والمدينة والمسرح الجغرافي – التاريخي للعصر النبوي للإسلام.
وهذه أهميّة –كما تقول المستشارة الألمانية ميركل- توفر للسعودية عشرين مليار دولار سنوياً، وهي وظيفة خالدة، فقد ينضب النفط ويخسر آل سعود موارده، لكن موارد الحج دائمة على الرغم من أنها أقل حالياً من موارد النفط.
لكن هاتين الوظيفتين انتجتا هيمنةً سعودية على جوارها الخليجي المباشر وعمقها العربي ومداها الإسلامي، ما جعل من السعودية مرجعيةً إسلاميةً عالمية تستشيرها الدولُ لبناء مواقفها السياسية.
لقد أدت هذه المملكةُ دورَ الجابي الدولي الذي يضعُ نفوذه العالمي في خدمة السياسات الأمريكية، وتحولت قصورُ آل سعود في الرياض منشداً يقصُدُها المسؤولون في الدولة لتأمين مساعدات مقابل ولاءات سياسية.
كما بذلت الشركات والمصانع الغربية الكبرى جهوداً لعقد صلات مباشرة مع أُمراء سعوديين تماماً كمثل وسائل الإعلام ومكاتب الدراسات التي عقدت روابطَ مباشرةً؛ للتمويل والوقوف على الخاطر السياسي للسعودية.
ظلت هذه الصورة طاغيةً حتى اندلاع الأزمة السورية قبل ثماني سنوات. هذه الأزمة المستمرّة التي تؤرِّخُ لبداية تصدع خطير في الادوار السعودية.
لتظهير هذا التصدع خليجياً يمكن تأكيد أن المملكة على علاقة عداء مع قطر وإيران وسيئة مع الإمارات وعُمان والكويت فلا تبقى إلّا البحرين الجزيرة الصغيرة التي تحتوي على قواعدَ أمريكيةٍ وفرنسية وبريطانية وقوات مجلس التعاون الخليجي وجيش سعودي ودَرَك أردني. وهناك حديث جدي عن حضور عسكري إسرائيلي، أما جيش البحرين نفسه فيضم مرتزِقة من باكستان وإندونيسيا وفلسطين والأردن ومصر وسورية، مع قلة نادرة من البحرانيين.
ماذا عن الشرق العربي؟ إنها متعادية مع سورية إلى جانب رفض عميق للتشكيلة السياسية الحاكمة في العراق، لكنها لم تعد تتجرأ على إشهارها كذي قبل، كما إن علاقاتها بالأردن ليست سوية، ولا تسيطر على مصر التي تطالبها دوماً بمساعدات، لقد خسر آل سعود أَيْـضاً نفوذهم في شمال إفريقيا بمعدلات كبيرة ويحاولون مجدّداً إنما من فائدة التسلّل إلى الجزائر والسودان وليبيا، لكن منافسيهم إلى هذه المناطق أقوى منهم بكثير.
إن ما يجسد هذا التراجع هو مسارعة أمين عام الجامعة العربية أبو الغيظ إلى السلام على الوفد السوري في الأمم المتحدة الذي بادله السلام بجفاء وإهمال.
علماً أن أبا الغيظ يجسد التقاء السياستين السعودية والقطرية في الأزمات العربية، حتى أن اليمن أصبح معادياً للسعودية، بكل مناطقه الجنوبية والشمالية.
يتبين بالاستنتاج مدى تراجع الدورَين الخليجي والعربي للسعودية. وهذا ينسحب على وضعها في العالم الإسلامي الذي لا يقل سوءاً؛ بسَببِ تراجعها العربي والداخلي.
وجاء الصراع بين الرئيس الأمريكي ترامب راعي النظام السعودي الحالي وبين معظم حلفائه ومنافسي بلاده، ليضع السعودية أمام المجهر. وأصبح صعباً عليها أن تستمر بسياسة الاغتيالات والتصفيات الداخلية من دون تمرير صفقات لمدى واسع من أوروبا ولم يعد ذلك ممكناً؛ بسَببِ الاستفراد الترامبي بها.
لذلك تبدو السعودية مأزومة عربياً وأوروبياً ويناصبها الحزب الديموقراطي الأمريكي العداءَ؛ لارتباطها بخصمها الجمهوري ترامب، الذي يحمّلها مسؤولية قتل المدنيين في اليمن ودعم الإرهاب في مدى عالمي واسع.
أما لجهة النفط، فالسعودية لا تزال -بدعم أمريكي- تستولي على حصة إيران المحاصَرة في أسواق البيع وتلتهم قسماً من حصة العراق، ومع تطور إنتاج النفط والغاز الصخريين في أمريكا والصين وأماكنَ أُخرى، فإن الازدهار النفطي السعودي لم يعد مضموناً.
ألم يقل ترامب بوضوح بأن بلاده لم تعد بحاجة للنفط السعودي؟ كما إن دخول النفط الفنزويلي الأسواق قد يكون على حساب غزارة النفط السعودي، فكيف يمكن السماح للسعودية التي لا يصل عديد سكانها إلى 25 مليون نسمة ببيع 12 مليون برميل يومياً ولا تستطيع فنزويلا ذات الثلاثين مليون نسمة إلّا بيع مليون برميل فقط؛ لذلك فإن تشكيل العالم المتعدد القطب يصيب الأمريكيين وحلفاءهم السعوديين أَيْـضاً.
أما المؤشرُ الأخيرُ على التصدّع السعودي فيتجسّدُ بنجاحِ اليمنيين في أسر فصيل سعودي كامل وألوية ثلاثة في محور نجران، وهذا يشبهُ هزيمةً كاملة ومدوّية للجيش السعودي تعكس أزمته السياسية الكبرى في سياسة اليمن.
هل ينهار البناءُ السعودي؟
لا شك في أن أدوارَهُ تنهارُ بسرعة، لكن للأمريكيين مصلحةً في المحافظة على الدولة السعودية في دورَيها النفطي والديني.
بأي حال.. إن «السوبر» سعودية انتهت وقد تستمر بدعم أمريكي بوظيفتها النفطية فقط؛ لأَنَّ موسم الحج أصبح مراقباً بدقة من دول تعملُ على نزع الدور السياسي السعودي منه، والإبقاء عليه كوسيلةٍ لعبادة الله.