كل ما يجري من حولك

صلاحُ الأُمَّـــة لا يتحقّــق إلا بالزهد واليقين

1٬092

 

أم مصطفى محمد

يقولُ اللهُ تعالى في محكم كتابه العزيز: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَئَابِ).

الزهد من أهَمّ الصفات التي ينبغي أن يتصف بها السالك إلى الله تعالى، فإن السلوك إلى الله بمعناه الحقيقي هو التوجّه إلى الله بعبادته والانقطاع إليه والإعراض عما سواه، والزهد هو الصفة الموافقة للانقطاع إلى الله، وهو الذي يتحقّــق به إعراض الإنْسَان عن الدنيا ومتاعها إلاّ ما يحتاج إليه من مقومات حياته ولا يستغني عنه.

ولقد ورد في تعريف الزهد في الدنيا جملة من الأحاديث، فقد قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: ما الزهد في الدنيا؟ قال: “تنكب الحرام” كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام “الزهد في الدنيا قصر الأمل” وفي الحديث المروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال “الزهد عشرةُ أشياءَ، وأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا، ألا وإن الزهد في كتاب الله عز وجل (لِّكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا ءَاتَاكُمْ)، كما جاء عن الإمام علي عليه السلام أنه لما سئل عن الزهد قال “الذي يترك حلالها مخافة حسابه، ويترك حرامها مخافة عذابه” فهذه الأحاديث وإن اختلف لسانها وبيانها في تعريف الزهد وبيان حقيقته إلا أنه يمكن إرجاعها إلى معنى واحد وهو الميل بالنفس والرغبة بها عن متاع الدنيا وزخرفها ابتغاءً لما عند الله ولما أوعد به عباده المؤمنين من نعيمه الباقي فيكون بذلك كُــــلّ واحد من هذه الأحاديث ناظراً إلى قسم من أقسام الزهد وفرد من أفراده وقاصداً بيان تعريفه، فالزهد إنما يكون بالميل عن الدنيا ومتعلقاتها من حب المال وحب الجاه وحب الاستمتاع بملاّذ الحياة من الطعام والشراب وغيره، ويقابل الزهد في الدنيا حب الدنيا والميل إليها والرغبة فيها وفي زخارفها ومتاعها، ولذلك كان الزهد محبوب بل به صلاح الأُمَّـــة ففي الحديث المروي عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم “إن صلاح أول هذه الأُمَّـــة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالشح والأمل” وها هو أمير المؤمنين عليه السلام يمدح الزهد في حديثه فيقول “الزهد ثروة والورع جُنة”.

إنَّ من المصاعب التي تواجهها البشرية جمعاء أن الإنْسَانَ الفرد مجبولٌ خَلْقاً على حب الجاه، فالجاه والتمتع بالنفوذ من الطبائع القوية التي تولد مع الإنْسَان؛ لذلك فإن الوصول إلى مستوى دقيق من الزهد لا يمكن أن يكون هدفا سهلا خُصُوصاً أن التأثيرات التي تؤثر في هذا المجال كثيرة منها الأجواء التي يعيشها الفرد والظروف التي تحيط به بالإضافة إلى تأثير عوامل الوراثة، فكل هذه الأمور تتشابك مع بعضها وتتعاضد لكي تمنع الإنْسَان من الوصول إلى الدرجة المطلوبة من الزهد، ومع كُــــلّ ذلك يبقى الأخير هدفا ممكن التحقيق للإنْسَان إِذَا ما تحلى بالإرادة والإيْمَان والتصميم النادر، ولا يعني الزهد الامتناع عن الطعام والشراب أَو التملك أَو النكاح بل حقيقة الزهد أن لا يأسى الإنْسَان ولا يحزن على ما فاته من ثروات وقدرات مهما كان نوعها، ولا يفرح بما أوتي مثل ذلك وهذه من‍زلةٌ لا يبلغها المرء بسهولة بل لابدّ له أوّلاً من تمرين متواصل وترويض مستمر فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: “الزهد بين كلمتين من القُــرْآن ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا اتَاكُم﴾ فمن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتى فقد استكمل الزهد بطرفيه” فهذه الرواية تشرح أمرين الأول يبين أن الزهد ليس رفض نعم الدنيا والابتعاد عنها والعيش حياة الفقراء والمساكين فعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال “ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عز وجل”.

وأما الأمر الثاني هو أن الزهد صفة راسخة في نفس الإنْسَان تكون نتيجتها أمرين عدم فرحه بالدنيا المقبلة ولا حزنه على الدنيا المدبرة ليصل بذلك إلى مرحلة لو أصاب فيها حظاً وافراً لم يفرح فرح المنتصرين، ولو أُصيب بمصيبة لم يجزع جزع الحريصين، فالزاهد هو الذي يستفيد من الدنيا دون أن يكون أسيراً لها.

You might also like