كل ما يجري من حولك

مظلوميةُ الإمام الحسن عليه السلام

820

 

أم مصطفى محمد

إنَّ الظروفَ الصعبةَ التي أحاطت بحياة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام جعلت من محطات حياته ودراستها أمراً يحتاجُ إلى كثيرٍ من الدقة والتمحيص والإنصاف؛ لأَنَّ الإمامَ عليه السلام قد عانى مظلوميةً من أهل زمانه، ومظلومية في صفحات التأريخ الإسْـــلَامي سواء على مستوى فهم حركته السياسيّة المباركة وصولاً إلى الصلح مع معاوية، أَو على مستوى بعض الاتّهامات التي لا تليقُ بالإمام عليه السلام كتعدُّدِ الزوجات المفرط وغير ذلك من الأمور التي نشتم منها رائحة البيت الأموي، فمعاناةُ الإمام الحسن عليه السلام المباشرة بدأت من اللحظة التي عَهِدَ بها الإمامُ علي عليه السلام إليه بوصيته قبل شهادته بيومين، حَيْــثُ قال “يا بنيّ! إنه أمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن أوصي إليك وأدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إليّ ودفع إليَّ كتبه وسلاحه وأمرني أن أمرك إذَا حضرك الموت أن توصي بها إلى أخيك الحسين عليه السلام”، فبعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام خطب الإمام الحسن عليه السلام خطبة قال فيها: “أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنا ابن البشير، أنا ابن النذير… إلى آخر تلك الخطبة المباركة فبعد ذلك قام ابن عباس ودعا الناس إلى بيعته فاستجابوا وبايعوه قائلين “ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة” فكان عدد المبايعين له أَكْثَـــر من أربعين ألفاً، لكن هذه الفئة التي ادعت محبته لم تكن إلا فئة انهزامية خذلته في المواقف الصعبة وتخلت عن نصرته في أحلك المواقف بل إنها لم تكتفي بذلك فاعتدت عليه ووصفته بمُذل المؤمنين، ليس ذلك فحسب بل إن منهم من لجأ إلى المعسكر المعادي للإمام وشوه سمعته في حياته، ولم تتوقف مظلوميته عليه السلام على ذلك العهد فقط بل استمرت إلى يومنا هذا، حَيْــثُ نجد أن هناك فئة تقوم بتشويه سيرة القائد الإمام الحسن عليه السلام عبر الترويج لخطاب (الاهزام والاستسلام وخدمة السلطات الظالمة)؛ باعتبار أن هذا الخطاب -على حَــدِّ زعمهم- يُمثل خطاب وسياسة ومنهج وسيرة الإمام الحسن عليه السلام وما هو إلا تزييف للحقائق الهدف منه تحويل الإمام عليه السلام إلى شماعة يعلقون عليها تخاذلهم وانهزامهم وموالاتهم للظالمين.

إن استعجالَ الحكم على الإمام الحسن عليه السلام ممن كانوا حولَه وفقدانهم للرؤية الاستراتيجيّة الكلّيّة لعمله وجهاده كان له الدور الكبير في مظلومية الإمام الحسن عليه السلام فصلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية كان في حقيقة الأمر حرباً باردةً على معاوية؛ كونها كشفت زيفَ معاوية أمام الأُمَّــة، وأبطلت حججه وأُسطورته في أذهان الكثيرين من المغفّلين به، حَيْــثُ نجد أن السببَ الرئيسي الذي جعل الإمام الحسن الزكي عليه السلام يصالحُ معاوية الخبيث هو أن الأُمَّــةَ في الفترة التي تولى فيها الإمام الحسن عليه السلام الخلافة كانت مبتلاه بمرض الشك، حَيْــثُ كانت الأُمَّــةُ تشكُّ في طبيعة الصراع الذي كان ناشباً بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية وتتصوّره صراعاً من أجل حيازة السلطة وليس صراعاً بين الحقّ ممثّلاً بالإمام الحسن (عليه السلام) وبين الباطل ممثّلاً بمعاوية اللعين، وأمام هذا الشك لم يكن أمام الإمام الحسن(عليه السلام) من سبيل لمعالجة هذا المرض إلّا بمصالحة معاوية؛ لأَنَّ الصلح وحده هو القادر على كشف حقيقة معاوية، وَإذَا ما كشفت الأُمَّــة حقيقة معاوية سوف تدرك أنّ حربه على الإمام الحسن (عليه السلام) إنّما هي حرب ظالمة وأنّ الإمام الحسن (عليه السلام) إنّما يدافع عن الحقّ وعن الرسالة وليس عن السلطان والجاه والرئاسة، وبالتالي فإنّ بني أمية سيتعرون وينكشف زيفهم وبطلانهم، وبهذا يُزال مرض الشكّ الذي كانت الأُمَّــة مبتلاه به، فلا تشكّ بعدئذ بأحقية أهل البيت (عليهم السلام) في دفاعهم عن الرسالة، ولا تصدّق شعارات بني اُميّة الكاذبة الزائفة، كما أن من الأسباب التي أدت إلى عمل هذا الصلح هو أن الإمام (عليه السلام) لا يستطيع النهوض بالأمر إلّا عندما تتوافر لديه قوّة ومقدرة تكفي لإنجاح مهمّته وفق المقاييس المعقولة، فلا يشترط في هذه القوّة أن تكون أكبر من قوّة العدوّ من الناحية المادّيّة، بل يكفي أن تكون متوافرة على شروط القوّة المعنويّة التي قد تتفوق على القوّة المادّيّة، لكن الإمام الحسن (عليه السلام) لم يحصل على هذه القوّة حتّى بالحدّ الأدنى الذي يمكن أن تستمرّ بواسطته المجابهة ولهذا اضطرّ إلى إيقاع الصلح مع معاوية فهناك نصوص وروايات تؤكّد هذه الحقيقة المتمثلة في عدم امتلاك الإمام الحسن (عليه السلام) القوّة التي تمكّنه من الاستمرار في مواجهة معاوية واضطراره لمصالحته، فها هو عليه السلام يخاطب أصحابه فيقول: «أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة والصبر بالجزع، وكنتم تتوجّهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكُنّا لكم وكُنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثُمّ أصبحتم تصدّون قتيلين: قتيلاً بصفّين تبكون عليهم، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر، وإنّ معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نَصَفَة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله وحاكمناه إلى الله)، فما أن انتهى عليه السلام من مقولته حتى نادى القوم بأجمعهم (بل البقيّة والحياة) فكان هذا الصلح هو سبب معاناة الإمام الحسن عليه السلام طوال فترة حياته كما أنه كان المقدمة لاغتياله عليه السلام، حَيْــثُ نجدُ أن معاويةَ لم يكتفِ بالصلح مع الإمام الحسن عليه السلام بل حاول قتلَه وَالقضاءَ عليه وذلك بدس السم إليه ثلاث مرات إلا أن الإمام عليه السلام نجا من تلك المحاولات الثلاث فما كان من معاوية إلا أن طلب سُمًّا قاتلاً من ملك الروم واتصل بجعدة بنت الأشعث زوجة الإمام الحسن عليه السلام، حَيْــثُ وعدها أن يزوّجَها من ولده يزيد إن هي قتلت الإمام الحسن عليه السلام فقبلت تلك الخبيثة ووضعت السم في شربة من لبن وقدمته للإمام الحسن عليه السلام وقت الإفطار فشربه الإمام فسرى السم في بدنه الشريف وتغير لونه وأحس بأمعائه كأنها تقطعُ بالسكاكين، فدعا بطشت وصار يتقيأ دماً حينها دخل عليه جنادة بن أبي أُمية فرآه وَالطشت بين يديه يقذفُ فيه أحشاءَه قطعة بعد قطعة فقال: سيدي هلا عالجت نفسك؟ فقال عليه السلام: بماذا أعالج الموت؟ لقد سُقيت السم ثلاث مرات وهذه الرابعة فلما وصل الخبر إلى الإمام الحسين عليه السلام دخل على أخيه فرآه وَالطشت بين يديه يتقيأ دما فجلس عنده وَضمه إليه ثم قال عليه السلام (أخي أبا محمد من الذي سقاك السم؟ فقال الإمام الحسن عليه السلام: أخي وما تريد منه؟ دعني أخاصمه يوم القيامة بين يدي ربي، أخي إن الذي قتلني لواحد ولكن لا يوم كيومك أبا عَبدالله يزدلف إليك ثلاثون ألفاً فيقتلونك ويسبون ذراريك) فبهذه الحادثة المؤلمة استشهد من قال عنه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في مولده (فلا يزال الأمر به حتى يُقتل بالسم ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته، ويبكيه كُـــلّ شيء حتى الطير في جو السماء والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعم العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب).

You might also like