نقطة.. ومن أول السطر، وعفا الله عما سبق مادام كل طرف – كما أعلن بنفسه – خرج راضياً عن مخرجات مفاوضات استوكهولم (السويد) التي اختتمت الخميس الماضي بعد أسبوع شاق لم يكن أحد ليتوقع حتى يومه الأخير أنه سيشهد انفراجاً باتجاه فتح الطريق أمام حل سياسي ينهي عدواناً مستمراً منذ أربعة أعوام.

والمطلوب اليوم – منطقياً – أن يبني كل طرف على ما تحقق، ويُترجم أقواله – ما بعد اختتام المفاوضات – أفعالاً على الأرض، ولاسيما من جانب التحالف الذي استمرت غاراته وعملياته العسكرية طوال أسبوع المفاوضات.. وما زالت؟!

اليوم، كل طرف هو تحت المجهر الأممي – هكذا يُفترض – لناحية الالتزام بما جرى الاتفاق والتفاهم عليه في استوكهولم، وذلك حتى نهاية كانون الثاني المقبل، حيث من المرتقب أن تستضيف السويد جولة جديدة لاستكمال بحث ما تعثر في الجولة الماضية، وبما يضع نقطة بداية نحو الاتفاق على «الإطار السياسي العام».. ولا شيء يبدو مستحيلاً باعتبار أن «استوكهولم» وضعت أو كشفت عن الكثير مما يمكن التعويل عليه لإنهاء العدوان، ربما ليس في الجولة المقبلة تحديداً، قد يحتاج الأمر أكثر من جولة، شرط أن يستمر سياق التطورات الإقليمية – والأمريكية (داخلياً) متصاعداً وضاغطاً باتجاه فرض إنهاء العدوان كأمر واقع لا مفر منه في حال أرادات الولايات المتحدة وحلفاؤها في الإقليم أن تصب خواتيم الأمور في مصلحتها ومصلحتهم.

على مقياس التفاؤل سجلت الأمم المتحدة عبر أمينها العام أنطونيو غوتيريش، الدرجة الأعلى، حيث «بشّر» باتفاق حول مطار صنعاء في غضون أسبوع، ومطار صنعاء هو الملف الثاني الأكثر تعقيداً بعد ملف الحديدة.. وكان لافتاً وغريباً تصريح السفير السعودي لدى اليمن -محمد الجابر عقب اختتام مفاوضات استوكهولم بأن تنفيذ الاتفاقات والتفاهمات سيبدأ فوراً «مع بدء يوم غد الجمعة» أي 14 الجاري.. تصريح يبدو فيه استعجال سعودي واضح، وفي حال كان هذا التصريح يعبر حقيقة عن الموقف السعودي الرسمي، نعتقد أنه كاف لـ «نستبشر» خيراً بعام جديد يحمل السلام لليمن.. ولا منَّة للسعودية في ذلك قياساً بحجم ما تتعرض له من ضغوط بسبب فظاعات عدوانها على اليمن (ولاحقاً قضية خاشقجي) مُضافاً إلى ذلك أن الولايات المتحدة نفسها – إدارة ترامب تحديداً – تريد إنهاء هذا العدوان في سياق الخطة «ب» التي أعدتها للإقليم بمواجهة إيران ولمصلحة «إسرائيل».
كل ما سبق هو قراءة بالعموم، فهل التفاصيل تتفق مع هذه القراءة.. أم إن في طياتها ما هو مختلف ومتضاد معها، ونحن في المنطقة معتادون دائماً على أن الخطورة في التفاصيل وليست في القراءات العامة؟

حتى أكثر المتفائلين لم يكن ليتوقع أن تقطع مفاوضات استوكهولم هذا الشوط الواسع بعد فشل أربع جولات سابقة (في جنيف وبيل – سويسرا عام 2015، وفي الكويت عام 2016، وفي جنيف عام 2018 وهذه الأخيرة فشلت أو أحبطت قبل أن تبدأ وكانت مقررة في أيلول الماضي).. وبعد الفشل الذي سجلته هذه المفاوضات طوال أيامها باستثناء نهار اليوم الأخير الذي انتهى باتفاق حول الحديدة، وتفاهم حول تعز يقضي بخفض حدّة التوتر وفتح ممرات إنسانية لإيصال المساعدات إليها، ولا ننسى الملف الإنساني (اتفاق تبادل الأسرى والمعتقلين).

البدايات.. وماذا حملت؟

إذاً، قاب قوسين أو أدنى كانت مفاوضات استوكهولم ستنتهي كغيرها إلى الفشل، فما الذي حدث، ولماذا غدا المستحيل ممكناً فجأة، وأين كانت نقطة التحول الأساسية؟

الجواب عند الولايات المتحدة تحديداً التي صنعت في اليوم الأخير ذلك التحول الأساسي بإرسالها حزمة ضغوط ملزمة حملها غوتيريش لما يسمى «وفد الشرعية» أي للتحالف الذي كان سفراؤه حاضرين بقوة، وحسب مجريات المفاوضات، ففي كل مسألة أو اقتراح كان «وفد الشرعية» يذهب لأخذ الكلمة الأخيرة من سفراء التحالف، ليعود دائماً بالرفض باستثناء اليوم الأخير حيث وافق على ما كان يرفضه بشدة حتى الأمس القريب خصوصاً ذلك المتعلق بالحديدة، إذ إن الاتفاق حولها إذا ما طبق فمن شأنه أن يسحب كل الذرائع والحجج التي تتلطى وراءها السعودية لشن الهجمات على الحديدة.. طبعاً الهجمات ما زالت مستمرة براً وجواً – وبالعنف نفسه – وكأنّ لا مفاوضات حصلت ولا اتفاقاً وُقع.. السعودية تحاول بأقصى ما تستطيع استغلال الوقت المتبقي ما قبل دخول اتفاق الحديدة حيز التنفيذ، عسى ولعل أن تحقق بعض التقدم، علماً وحسبما هو معلن في ختام مفاوضات استوكهولم فإن الاتفاق – ولاسيما وقف إطلاق النار – سيدخل حيز التنفيذ مباشرة.. في اليوم التالي كما قال السفير السعودي محمد الجابر، فكيف نفهم هذا الأمر؟

لنلاحظ كيف أن «وفد الشرعية» لم يكن راضياً في ختام المفاوضات بدليل تصريحاته التي عدّ فيها أن ما جرى هو انتصار للطرف الآخر (أي لأنصار الله) وأن الاتفاق يبقى «افتراضياً حتى تطبيقه» أي كأنه يقول لنا إن الاتفاق شيء والتطبيق شيء آخر.
طبعاً هذه التصريحات طويت لمصلحة تصريحات سفراء التحالف التي أشادت بنتائج مفاوضات استوكهولم وأكدت الالتزام بها.. وبالعموم كان هناك ترحيب واسع بالنتائج ودعوات إلى جميع الأطراف لـ «البناء على ما تحقق» في استوكهولم باعتباره الفرصة الأهم في مسيرة مفاوضات مستمرة منذ عام 2015.

والسؤال: إذا كان حديث الضغوط الأمريكية صحيحاً فهل هي ضغوط نابعة من نية جادة لدى إدارة ترامب لإنهاء العدوان، بمعنى هل أن إدارة ترامب باتت جاهزة لهذه الخطوة، ومن دون أن تضمن أن يكون حلفاؤها هم الفائزون، أم هي مناورة من ترامب – بمفاعيل مؤقتة – للالتفاف على تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي (13 الجاري) على قرار بوقف الدعم للسعودية في عدوانها على اليمن، وتحميل ولي العهد محمد بن سلمان مسؤولية اغتيال خاشقجي.

أغلب المراقبين يعزون الضغوط الأمريكية إلى هذا السبب، عادين أن ما تحقق في استوكهولم غير قابل للتطبيق إلا إذا استمر ضغط مجلس الشيوخ على ترامب، ورغم أن هذا الأخير يملك «حق نقض» القرار بموجب الدستور – وهذا ما سيفعله – إلا أن الدستور نفسه يتيح للكونغرس تجاوز الـ«فيتو الترامبي» بإعادة التصويت على القرار، وفي حال حصل على تأييد ثلاثة أرباع الأعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب يصبح قانوناً نافذاً ملزماً لترامب.. لكن القصة لا تنتهي هنا، ففي الدستور نوع ثان من الـ «فيتو» يُسمى (فيتو الجيب pocket veto) وهو مناورة تشريعية تسمح للرئيس بعدم اتخاذ أي إجراء خلال فترة التئام الكونغرس في دورة عادية.. أو خلال فترة انتهاء دورة الكونغرس، وفي هذه الحالة يموت مشروع القانون تلقائياً.. علماً أنه لم يسبق أن استخدمه أي رئيس أمريكي، لكن مع ترامب كل الاحتمالات واردة.

ما بعد استوكهولم!

أياً يكن، فإن مجريات ما بعد استوكهولم لا تظهر الكثير من الإيجابيات لناحية الالتزام بما جرى الاتفاق عليه.. تدليلاً على ذلك نعرض بعض المجريات:
1- العمليات العسكرية من جانب التحالف لم تتوقف، ولم يكن هناك أي ضغوط دولية – أمريكية لوقفها.
2 بعد أن قدم المبعوث الأممي مارتن غريفيث (الجمعة الماضية) إحاطته الخاصة إلى مجلس الأمن، فإن نتائج مفاوضات استوكهولم دخلت في عهدة الأمم المتحدة كوثيقة رسمية قانونية، وعليه كان يُفترض أن يكون لها موقف – أو تصريح على الأقل – تجاه الهجمات والغارات التي ينفذها التحالف.. ولكن لا موقف ظهر ولا تصريح صدر.
3- عطفاً.. كان يُفترض أن يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بعد إحاطة غريفيث أو أن يعلن هذا الأخير موعداً محدداً له.. هذا لم يحدث ولا نعرف متى سيحدث.
4- لدينا شهر وعشرة أيام فقط قبل موعد الجولة المقبلة – للبناء على ما تحقق في استوكهولم – وبما يعزز إجراءات «بناء الثقة» التي هي العنوان الرئيس في خطة غريفيث.. وفي حال تعثر وقف إطلاق النار (الذي هو البند الأول في اتفاق الحديدة).. وفي حال لم يكن هناك موقف أو ضغوط دولية على التحالف، فهذا يعني: إما أن تُلغى الجولة المقبلة، أو أن تُعقد على فشل.. وتنتهي إلى فشل.
5- إذا كانت الضغوط الأمريكية مجرد مناورة (وبالاتفاق مع التحالف) فهذا يعني أن نتائج استوكهولم «خلبية» وربما هذا ما يُفسر استمرار التحالف في عملياته العسكرية، استهانة بها وتقليلاً من شأنها، ما يعني أن الملف اليمني لم يتقدم بل هو مستمر في مكانه، وما علينا سوى تتبع تطورات الأيام المقبلة، فإما أن تثبت صحة مخاوفنا أو أن تلغيها.. علماً أن استوكهولم – وباعتراف الجميع – فتحت باباً لا يُستهان به نحو خلاص اليمن، ولكن ماذا نفعل إذا كانت العبرة في التطبيق والتنفيذ وليس فقط في صف الكلام وتدبيج البيانات؟

كيان البحر الأحمر.. لماذا الآن؟

6- هناك حدث لافت جرى على هامش المفاوضات وهو إعلان السعودية (12 الجاري) الاتفاق على تأسيس ما سمته (كيان البحر الأحمر وخليج عدن) كتكتل يضم الدول السبع المُطلة على البحر الأحمر (السعودية، مصر، الأردن، اليمن، جيبوتي، الصومال، السودان).. الإعلان جاء بعد «الاجتماع التأسيسي» الذي استضافته السعودية الأربعاء الماضي لوزراء خارجية تلك الدول.. وطبعاً السعودية قدمت هذا «الكيان» في إطار حرصها المزعوم على أمن الدول العربية والإفريقية المتشاطئة على البحر الأحمر وخليج عدن، وتالياً حماية التجارة العالمية والملاحة الدولية التي تمر عبرهما.. والبحر الأحمر، حسب التصنيف الاستراتيجي، هو أحد مفاتيح السيطرة على العالم لاحتوائه على واحد من ثلاثة مضائق هي الأهم عالمياً وهو مضيق باب المندب (إلى جانب مضيقي هرمز وجبل طارق) وباب المندب يكتسب أهميته من قناة السويس التي تربطه مع البحر المتوسط ، ومن مضيق هرمز الذي تربطه به حركة نقل وملاحة عبر المحيط الهندي.. والبحر الأحمر إذا ما أردنا توصيفه بدقة هو قلب العالم الاستراتيجي لوجوده في موقع وسيط بين أكبر مناطق إنتاج النفط في العالم، ولطالما كان مفتاح السيطرة على المنطقة العربية عبر التاريخ.

هذا العرض الطويل ليس في غير مكانه، علماً أنه لا يعطي البحر الأحمر حقه لناحية الأهمية والمكانة والدور.. هذا العرض هو لإدراك ماهية وأهداف والنيات المبيتة وراء الطرح السعودي، الذي لو كان طُرح في غير هذا الوقت الكارثي الذي تشهده المنطقة العربية، وقبل أن تشن السعودية عدوانها على اليمن.. لو كان طُرح في غير هذا الوقت لكان طرحاً غاية في الأهمية والتفكير الاستراتيجي (الذي ترفع له القبعة) وبما يُؤسس لأهم تكتل عربي – إفريقي، لا بد من أن يُحجز له دور مركزي على خريطة التكتلات العالمية القائمة والناشئة..

..ولكن أن يُطرح اليوم، فهو طرح خطر جداً، يقوم على الهيمنة والسيطرة والاستغلال (وحتى التجزيء على المستوى العربي) لكون الدول المطلة على البحر الأحمر – باستثناء مصر – هي دول ضعيفة مأزومة ومتأزمة ولن تقوى على مخالفة القرار السعودي وعليه ستكون السعودية هي الحاكم والآمر الناهي .. من هنا علينا أن نفهم لماذا لا يمكن للسعودية أن تقبل إلا بفوز كامل في اليمن.. الكيان المطروح – وفي حال جاءت مخرجات الحرب على اليمن على غير ما تريد السعودية والولايات المتحدة – هذا الكيان من شأنه أن يُحاصر اليمن، أو بعبارة أدق يُحاصر الطرف الذي يرفض الهيمنة والتبعية للسعودية أو لغيرها (ولا ننسى إيران كهدف) وما يعزز هذا الاستنتاج أن الولايات المتحدة نفسها لطالما كانت عينها على اليمن، ولاسيما منه الساحل الغربي أي المنطقة المطلة على البحر الأحمر، ولذلك كانت الولايات المتحدة محرضاً وشريكاً وممولاً وداعماً (عسكرياً واستخباراتياً) للعدوان على اليمن.. (ونعتقد أن أي إدارة لاحقة ستكون كذلك.. وكل ما يطلقه خصوم ترامب من رفض للحرب على اليمن ما هو إلا في إطار الصراعات الداخلية والمواجهات الانتخابية).. كل هذا الذي سبق، هو ما يدفعنا للقول إن اتفاقات استوكهولم «خلبية»..ولا يمكن إلا أن تكون كذلك، لأن الولايات المتحدة وتحالفها لن يتخلوا عن كل شيء ببساطة ويعودوا أدراجهم.. لا بد من أن يكون هناك أكثر من خطة بديلة، وهذا ما سنشهده في الأيام المقبلة.

النهايات.. وماذا فيها؟

يدرك التحالف ومن ورائه الولايات المتحدة أن الحل العسكري أثبت فشله، وشهدنا في الآونة الأخيرة اعترافاً بذلك قاد إلى تقديم إدارة ترامب مبادرة في أواخر تشرين الأول الماضي للاجتماع والتفاوض، وإن كان لم يتم التجاوب معها في ذلك الوقت إلا أن مفاوضات استوكهولم استندت إليها، ولكن ليس بالصورة التي قُدمت بها أمريكياً، حيث كانت الشروط المُسبقة حاضرة، وبنود التفاوض معدة سلفاً ومُفصّلة على مقاس المصالح السعودية الأمريكية.. في استوكهولم بقيت الولايات المتحدة تراقب سير المفاوضات طوال الأيام الستة الأولى من دون أن تغادر دائرة الرفض لما يُطرح، وهذا ما كان سيقود إلى الفشل، لكن إدارة ترامب – لكونها في مرحلة انتقالية عصيبة – كان لا بد لها من إبداء بعض المرونة (بمعنى إعطاء الجمهور ما يتلهّى به).. وباعتقادنا هذا ما اعتمدته فيما يخص مفاوضات استوكهولم.. علماً أن هذه المفاوضات – بالشكل العام – اعتمدت منهجاً جيداً لناحية التدرج في طرح الملفات ومناقشتها والتفاوض حولها، بدءاً من تلك القابلة للحلحلة، وانتهاء إلى الأكثر استعصاء، التي تم تأجيلها إلى الجولة المقبلة.

ولولا أننا بدواخلنا يطغى علينا الشك والمخاوف إزاء كل ما يصدر عن الولايات المتحدة وحلفائها.. لكان تفاؤلنا كاملاً، لكننا لا نستطيع إلا أن نكون مُتشككين مُتخوفين.. ولولا أننا نعرف أن اليمن هو جزء من مخطط كامل معدّ للمنطقة (وللدول العربية) لكانت مفاوضات استوكهولم مفتاح حل كل القضية اليمنية.. لكننا لا نستطيع إلا أن ننظر إلى اليمن كجزء من كل.. وأن نبقى مُترصدين مُترقبين.

(قراءة – مها سلطان)