متابعات| ساسة بوست:

قبل بضعة شهور كان المواطن، مهاتير محمد يشغله كغيره من الماليزيين ما عرف بأكبر قضايا الفساد في التاريخ  والتي تسببت في نكسة لاقتصاد البلاد، وحين أصبح الرجل مرشحًا للانتخابات التي جرت في مايو (أيار) الماضي وضع  ملف الفساد على قائمة معركته الانتخابية، ليعجل حين نجح بملاحقة المشتبه بهم في هذه القضايا.

فسرعان ما خلع الرجل قبعته التراثية المصنوعة من القطن والمعروفة محليًا باسم «السونجوك»، وخط بقلمه خطواته الأسرع في مصادرة ووقف المشتبه بهم؛ إذ شكلت في المحصلة خطواته «نكبة» على السعودية والإمارات وحلفيهم الماليزي، رئيس الوزراء السابق، نجيب عبد الرزاق، كأسماء وردت في تلك القضايا، ولم يتمهل الرجل في خطوات اثبات أو نفي تورط هؤلاء في قضايا الفساد التي أضرت بالاقتصاد الماليزي لحد كبير، كما أن الرجل المخضرم سياسيًا لا يخفي عليه دوافع السعودية والإمارات بالاهتمام بدولة غير عربية تبعد عنهم أكثر من 6 آلاف كيلومتر، فهو يدرك أنها تعمل لمحاصرة ما تحسبه هي على  تيار الإخوان المسلمين، أو «التنظيم إرهابي» كما توصمه دائمًا، كما أن لها مآرب أخرى في ماليزيا.

 

أكبر فضيحة فساد في التاريخ على الأرض الماليزية

بدأت فصول قضايا الفساد الماليزي بالبروز مع المشاكل التي نجمت عن الديون التي واجهها صندوق الاستثمار الماليزي (1MDB.) المملوك للدولة، وذلك في أوائل عام 2015، فبعد هذا العام أخذت ماليزيا تعاني من اضطرابات سياسية ناجمة عن فساد أدي إلى تراجع الأداء الاقتصادي في البلاد، فقد تراجعت قيمة العملة المحلية أمام الدولار، واستنزفت احتياطات النقد الأجنبي، وقدر محققون سويسريون ما تم سرقت من الشركات الماليزية المملوكة للحكومة بأكثر من أربعة مليارات دولار، كانت قد خصصت هذه الأموال لتمويل مشاريع تنمية اقتصادية واجتماعية متنوعة.

ومع استلام، مهاتير محمد الحكم مؤخرًا وبلاده غارقة في قضايا فساد، سرعان ما بدأ الرجل معركته مع الفساد معلنًا عن أكبر عملية مصادرة لأكبر فضيحة فساد في التاريخ، مكانها ماليزيا وبطلها رئيس الوزراء السابق، نجيب عبد الرزاق، لنشهد خلال الأيام الماضية أخبار متواصلة عن مصادرة أموال ومقتنيات ثمينة قيمتها 273 مليون دولار من تعود لعبد الرازق، بينها مبالغ نقدية من 26 عملة قدرت بـ28,8 مليون دولار، و12 ألف قطعة مجوهرات بينها عقد قيمته 1,5 مليون دولار، ومئات حقائب اليد الفاخرة، وأكثر من 400 ساعة تقدر قيمتها بـ19,3 مليون دولار.

وتعود تفاصيل القضية التي سربتها وسائل إعلام غربية إلى عام 2016، حيث انتهى المطاف بكمية كبيرة من الأموال المختلسة في الولايات المتحدة، ففتح مكتب التحقيقات الفيدرالي تحقيق في القضية؛ ليكشف عن الاشتباه في أن عبد الرزاقسرب مليارات من الدولارات بصندوق (1MDB)، وحسب ما أكدته سلسلة وثائقية أعدتها «هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)» تحت عنوان «بيت آل سعود: عائلة في حرب» ولها ثلاث أجزاء أن عبد الرزاق اختلس ما لا يقل عن 1.2 مليار دولار من الصندوق، وذلك بعد قيامه كممثل للحكومة الماليزية آنذاك بإقراض شركة سعودية وهمية اسمها «بترو سعودي» من أموال الصندوق، ثم بعد ذلك اختفت 700 مليون دولار من هذا المبلغ.

وفي أبريل (نيسان) عام 2016، تلقى عبد الرزاق مبلغ 681 مليون دولار من المملكة العربية السعودية تحت بند التبرع، وحسب صحيفة «الجارديان» البريطانية، فوزير الخارجية السعودي عادل الجبير أكد في قمة منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول أنه «تبرع حقيقي ولا يوجد شيء متوقع في المقابل»، وبما أن عبد الرزاق كان ما يزال على رأس الحكم في ماليزيا حين كشف عن هذه القضية، فقد برأه المدعي العام في ماليزيا، محمد أباندي علي، على اعتبار أن مبلغ 681 مليون دولار الذي تم اكتشافه في حسابه الشخصي كان «هبة ملكية سعودية»، وقد قال أباندي: «بناء على شهادة الشهود والوثائق الداعمة، فقد كان مقتنعًا بأن الأموال المودعة في حساب رئيس الوزراء كانت عبارة عن تبرع شخصي له من الأسرة المالكة السعودية دون أي مقابل».

 ومرت هذه البراءة بالرغم من أن منح رئيس وزراء منتخب هذه الهدية المالية الكبيرة من دولة أخرى أمر من المفترض أن يكون غير قانوني لإدراجه تحت بند بـ«تلقي رشى خارجية»، واحتفت السعودية ووسائل إعلامها بهذه البراءة، فاعتبرت صحيفة «الرياض» أن اتهام عبد الرزاق بالفساد يعود إلى «زيادة حدة الصراع والاتهامات المتبادلة بين الحزب الحاكم والمعارضة الماليزية التي يقودها الإخوان المسلمون إلى التطور في السياسة الخارجية الماليزية تجاه حلفائها في الخليج العربي، حيث نجح رئيس الوزراء الماليزي الحالي نجيب رزاق في بناء علاقة تحالف استراتيجية قوية مع المملكة العربية السعودية»، وبررت الصحيفة التحالف السعودي مع عبد الرزاق بأنه ضروري لمواجهة «أخطر التحديات التي تواجه العالم الإسلامي اليوم هي أمران: الأول: المحاولات الإيرانية في التغلغل في المجتمعات وإثارة الاضطرابات، والثاني: حركات الإسلام السياسي ممثلة بالإخوان المسلمين التي تسعى إلى الهيمنة على البلدان الإسلامية».

هناك بلد خليجي آخر لم يستثن اسمه من قضايا الفساد الماليزي، إنها الإمارات وممثلها السفير الإماراتي في الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، الذي كشف في يونيو (حزيران) من عام 2017، أنه متورط في قضية صندوق (1MDB.) الحكومي،فقد بينت رسائل إيميل مسربة وجود علاقة وثيقة بين العتيبة، والممول الماليزي المثير للجدل (جو لو) البالغ من العمر 27 عامًا، الذي ساعد  عبد الرزاق في إدارة الصندوق الماليزي الحكومي، وتؤكد صحيفة «وال ستريت جورنال» على أن وثائق المحاكم والتحقيقات الأمريكية أظهرت ارتباط شركات بالعتيبة تلقت في العام الماضي مبلغ 66 مليون دولار من كيانات عملت كقنوات لتسريب الأموال التي يُزعم أنها اختلست من صندوق الاستثمار (1MDB.)، كما حولت شركة الاستثمارات البترولية الدولية (إيبيك) المملوكة لأبوظبي إلى الصندوق السيادي مبلغ قيمته 1.2 مليار دولار، وكذلك تم ربط مصرف (فالكون) المملوك للإمارات الذي يتخذ من سويسرا مقرًا له بفضيحة الفساد تلك.

دوافع السعودية … تحجم الإخوان في ماليزيا وتقويض القضية الفلسطينية

يمكننا تحديد الانتخابات البرلمانية الماليزية التي جرت عام 2013 كتاريخ بدأ فيه ظهور علاقة نوعية بين عبد الرزاق والسعودية، فقد عجلت السعودية لانتهاز الانتخابات لتدخل في الشأن الداخلي الماليزي، فقدمت قبيل الانتخابات التي أجريت في الخامس من مايو (آيار) 2013 «هبة» سرية عبر تحويلات تمت على دفعات بين أواخر شهر مارس (آذار) عام 2013 وأوائل أبريل  (نيسان) من العام نفسه.

وصدق علي هذا المبلغ الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، حيث دُفعت الأموال لماليزيا من حساب الملك الشخصي وخزينة الدولة، فيما أقدم ابنه الأمير تركي بن عبد الله على إنشاء تعاملات تجارية واقتصادية واسعة في ماليزيا، واختارت السعودية أن يكون عبد الرزاق الذي قاد ائتلاف الجبهة الوطنية الحاكم هو رجلها في ماليزيا كونه ينافس السياسي المعارضأنور إبراهيم، قائد جبهة التحالف الشعبي المعارض ومؤسس حركة الشباب الإسلامي عام 1971 التي تحسب – من قبل السعودية وحلفائها – أنها تمثل فكر الإخوان المسلمين في ماليزيا، ولتحقيق هدف تحجيم نفوذ الإخوان المسلمين في ماليزيا، دعمت السعودية بالمال حملة عبد الرزاق، فتسلم الرجل 2.6 بليون رينغيت في العام 2013 أودعها في حسابه الشخصي، فيما ضمنت الرياض بهذا المال تمدد مصلحتها في ماليزيا، منها المشاركة الماليزية في التحالف العربي في اليمن والموافقة على إنشاء مركز السلام العالمي في ماليزيا.

وتتفق السعودية مع الإمارات في وجوب لعب دور أساسي في ماليزيا لمحاصرتها كقوة من الممكن أن ترفض الهيمنة الغربية أو تتبنى ثورات الشعوب العربية وتطلعاتها، فالرياض في المجمل تتبني عملية التصدي لأي تجربة اسلامية تخالف توجهاتها الوهابية، ويوضح الباحث في شؤون العالم العربي والإسلامي صلاح القادري أن السعودية تهدف جراء إسقاط النموذج الماليزي منع أمران: «الأول أنه أصبح ملهمًا للإسلاميين الذين نادوا بتطبيقه في بلادهم، ومنهم الإسلاميون في مصر عندما وصلوا للحكم، والثاني أن هناك في ماليزيا من سعى لإلحاق بلادهم بمشروع حضاري يضم عددًا من القوى الإسلامية والعربية الصاعدة منها وتركيا وباكستان وقطر ودول أخرى، وهذا يشكل خطرًا على نفوذ السعودية».

وليس من الغريب أن تهدف العلاقات الإماراتية السعودية مع ماليزيا لجرها لتحقيق أهداف التقارب الخليجي الأمريكي الإسرائيلي، فالسعودية لا تريد من النظام الماليزي الذي يحكم نحو 31 مليون نسمة يتبعون في الغالب الإسلام السني الخروج عن نطاق الهيمنة الأمريكية الغربية، وهو الأمر الذي يحقق الانسجام مع الاستراتيجية الأمريكية والغربية القائمة على دمج دولة الاحتلال الإسرائيلي بالمنطقة بعد محاصرة القوى الصاعدة كما يحصل في محاصرة التجربة التركية، فرغم أنه لم تشهد ماليزيا طوال تاريخها أي علاقة ثنائية طبيعية مع الاحتلال منذ استقلالها، ظهر ذوبان للجليد الذي كان يحكم هذه العلاقة، فتمخض عن تقارب عبدالرزاق مع النظام السعودي الجديد تغير في الموقف الماليزي من دولة الاحتلال، يقول رئيس حزب أمانة الماليزي، محمد سابو لـ«عربي 21»: «أن الحكومة الماليزية رغم كل الحديث عن شكوك حول احتمال قيامها ببعض الأعمال التجارية السرية أو غير المباشرة وراء الكواليس مع إسرائيل، إلا أنها لم تعترف أبدًا بها، وحتى عندما يثار الأمر في البرلمان، رفضت الحكومة بشكل قاطع هذه الاتهامات».

مهاتير.. سيحطم الآمال السعودية الإماراتية في ماليزيا

سرعان ما تلقت السعودية الضربة الأولى من رئيس الوزراء الماليزي، مهاتير محمد بانسحاب قواته من التحالف العسكري الذي تقود السعودية في اليمن، فقد جسد الرجل موقفه الرافض لهذه الحرب إلى خطوة عملية فور فوزه في الانتخابات، ففي نهاية يونيو (حزيران) الماضي سحب القوات الماليزية من السعودية، وأعلن عن الانفصال عن التحالف العربي في اليمن.

لكن الضربة الأكبر ستكون في حال افتضح أمر السعودية والإمارات في قضية الفساد التي تورط بها عبد الرازق، فقد قال مهاتير: إن عبد الرزاق «ادعى مرة أنها لشخص ما، ومرة أخرى أنها لشخص من العائلة المالكة السعودية، لكنه لم يقدم أي دليل على هذا، لا يمكن أن نتهم السعودية إلا إذا ثبت طبعًا بالدليل أنها حاولت التدخل في السياسة الماليزية».

ومع إصرار مهاتير على تتبع المتورطين في قضايا الفساد الماليزي، وعلى رأسهم حلفاء السعودية، فلا يستبعد أن تتمكن التحقيقات من إثبات تورط السعودية والإمارات في زعزعة الوضع الاقتصادي لماليزيا، والعمل على تحويل ماليزيا إلىحديقة خلفية لتبييض الأموال، باستخدام هيئات وأفراد ماليزيين، وهنا لا يمكن تجاوز الحديث عن تداعيات ذلك على العلاقة بين ماليزيا وهذه الدول، فالتوتر الذي خلق بعد وصول مهاتير إلى الحكم يتوقع أن يدفع ماليزيا إلى التقارب مع قوى أخرى ليست بعيدة عن العداء مع الرياض وأبوظبي، فالرجل ذو الثانية والتسعين من العمر يسانده حليف قوي هو السياسي المخضرم أنور إبراهيم، وكلا الرجلان يختلفان مع التوجهات السياسية للسعودية والإمارات، منذ الثمانينات والتسعينات وحتى اللحظة، ويميل الأخير إلى التقارب مع محور تركيا في المنطقة؛ مما يعني الاقدام على إعادة صياغة علاقات بلاده بدول الخليج ذات النفوذ، كما أن مهاتير الذي ينظر إلى إيران كجزء رئيس من المشاكل التي يعيشها العالم العربي والإسلامي، ظهرت مواقف أخيرة له تشير إلى رغبة منه بالنأي عن مواقفه السابقة الرافضة للتشيع، فقد طالب المسلمين السنة في ماليزيا بتقبل الأقلية الشيعية في البلاد، كوسيلة لتجنب الصراع الداخلي.

وعلى صعيد القضية الفلسطينية، فلمهاتير موقف ثابت يرفض فيه التقارب مع دولة الاحتلال، إذ قال في تصريح سابق: إن دولة الاحتلال «دولة مارقة… إنه لا يجب السماح لإسرائيل بمواصلة مسارها الحالي والاستمرار في سياستها العنصرية وقمعها للفلسطينيين»، كما أن مهاتير قال بعد اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس كعاصمة لدولة الاحتلال أمام حشدٍ كبيرٍ احتج على القرار الأمريكي: «اليوم لدينا متنمر دولي.. ترامب.. اذهب وابحث عمن هو في حجمك.. لن تؤدي (خطة القدس) تلك إلا إلى تأجيج غضب المسلمين»، وصف ترامب بـ«متنمر دولي وشرير»، ودعى إلى قطع العلاقات العربية الإسلامية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.