كانت حضرموت ولا زالت مركز ثقل سياسي واقتصادي، ونقطة ارتكاز محورية، وملاذاً آمناً عند اندلاع الحروب الأهلية والصراعات السياسية الدامية التي عصفت باليمن خلال العقود الماضية. فمنذ صراعات 13 يناير 1986م، التي اندلعت على إثرها حرب أهلية مدمرة أتت كنتيجة حتمية لخلافات الرفاق في منظمة الحزب الإشتراكي اليمني الحاكم للشطر الجنوبي آنذاك، بقيت حضرموت بمنأى عن أتون تلك الصراعات ودهاليزها الملطخة باللون الأحمر القاني. ويعود ذلك إلى التركيبة الديموغرافية للمجتمع الحضرمي الذي تسوده ثقافة السلم المجتمعي منذ أواخر حقبة الإستعمار البريطاني، وتحديداً في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما يئس المندوب السامي البريطاني، هارولد إنجرامز، من إمكانية تحقيق نموذج الدولة في محمية عدن، فعمد إلى عقد صلح لإنهاء قضايا الثأر بين قبائل حضرموت العام 1937م، بهدف التمهيد لتأسيس جيش البادية الحضرمي، الذي استندت إليه مهام حفظ الأمن في محمية عدن الشرقية، باعتباره جيشاً نظامياً أنشئ على غرار جيش البادية الأردني.
ثقل سياسي
بيد أن التوصيف السابق لحضرموت لا يعني بالضرورة عدم أهليتها لأن تكون مركز ثقل استراتيجي وحاضرة سياسية واقتصادية جامعة في زمن الحروب، وإلا لما اختارتها القيادة السياسية الجنوبية عاصمة مؤقتة أثناء حرب صيف العام 1994م لإدارة الجبهات العسكرية وإعلان بيان «فك الإرتباط» بين «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» (سابقاً) والجمهورية العربية اليمنية، والذي أعلنه الرئيس الجنوبي الأسبق، علي سالم البيض، في 21 مايو 1994م، وهو البيان الذي حدد خياراته تجاه حالة الدولة المركزية التي جاءت نتيجة وحدة اندماجية عفوية، اتُخذ قرارها دون وعي سياسي بواقع الدولتين.
وسياسياً أيضاً، تُعتبر حضرموت العمق الإستراتيجي لثورة 14 أكتوبر 1962م والجذر الأول للحراك الجنوبي الذي انطلق عام 2007م؛ إذ بدأت فيها إرهاصات الكفاح المسلح ضد الإستعمار البريطاني من منذ نهاية الخمسينيات كامتداد لحركة القوميين العرب، كما أنها ظلت مناوئة لسياسة فرض الوحدة بالقوة وتعود إليها بدايات انطلاق الحراك الجنوبي عام 1998م، الذي شهد تشكيل ما عرف بحركة تقرير المصير (حتم).
موقع استراتيجي
واكتسبت حضرموت مكانتها البالغة الأهمية على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، من الموقع الإستراتيجي الذي تحتله هذه البقعة الجغرافية التي تشكل 36% من المساحة الكلية لليمن. فهي تمتلك شريطاً ساحلياً على البحر العربي يبلغ طوله حوالي 120 كم، يبدأ من الطرف الجنوبي الغربي للمحافظة عند الحدود مع مديرية رضوم في محافظة شبوة، ويمتد شرقاً حتى الطرف الجنوبي الشرقي لمديرية الريدة وقصيعر عند الطرف الجنوبي الغربي لمديرية المسيلة في محافظة المهرة.
وتتكون المحافظة من 30 مديرية، ومركزها هو مدينة المكلا، وتحدها السعودية من الشمال، وعُمان من الشرق، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الشمال الغربي محافظتا مأرب والجوف، ومن الشرق محافظة المهرة، ومن الغرب محافظة شبوة، وتُعدّ ثالث أكبر مدينة في البلاد بعد العاصمة صنعاء، وعدن. ويغلب على التركيبة الديمغرافية للمحافظة الطابع القبلي، الذي يتمتع بامتداد اجتماعي في الجوار السعودي نظراً لهجرة الحضارمة إلى الجزيرة العربية منذ عقود.
صراع الثروة
وزادت أهمية حضرموت من الناحية الإقتصادية مع اكتشاف حقل المسيلة النفطي مطلع تسعينيات القرن المنصرم، إلا أن ذلك فاقم من النزاعات على الثروة والموارد بين الأطراف السياسية عقب وحدة التسعينيات، ما أدى إلى الاحتراب الأهلي في صيف العام 1994م، حيث تمكنت القوى التقليدية النافذة في شمال البلاد من الهيمنة على الحقول والمنشآت النفطية، علاوة على الاستحواذ على عقود الإستكشافات النفطية، والتحكم بمفاصل الملف النفطي في حضرموت، وبالتالي حرمان أبناء المحافظة من حقوقهم المكتسبة في التمكين من إدارة ثروات وخيرات أرضهم التي ظلت مسلوبة إلى اليوم.
لا تمكين للحضارم
وعلى الرغم من تغير الظروف السياسية في حضرموت منذ انطلاق «عاصفة الحزم» واندلاع الحرب في اليمن، إلا أن أبناء المنطقة ما زالوا ممنوعين من إدارة الثروات النفطية والمعدنية والسمكية التي تزخر بها محافظتهم، المصنفة كـ«منطقة محررة» بالنسبة لـ«التحالف العربي» و«الشرعية اليمنية». وهذا ما أكده محافظ حضرموت، اللواء أحمد بن بريك، مؤخراً، خلال لقاء تلفزيوني، أشار فيه إلى أن «الصراع القائم والحرب الدائرة الآن هي حرب مصالح ونفوذ تأتي على حساب حضرموت». وأضاف بن بريك أن «الحكومة لم تقدم شيئاً، وكل ما أعلنته مجرد كلام…». وحول حصة حضرموت من عائدات النفط ، قال بن بريك: «نحن نعطي مصافي عدن إلى الآن مليوناً وخمسمائة برميل، واتفقنا ثلث تكون للمصافي، وثلث للمحافظات المحررة، وثلث لحضرموت، على اعتبار أن مأرب فيها نفط، وعليها تغطية المحافظات المحررة الشمالية. ونحن كلما سألنا عن هذه المبالغ، يقولوا لنا موجودة ولا نعلم أين ذهبت، والعملة الجديدة التي طبعت كانت بفضل حضرموت، وقالوا إنهم طبعوا 400 مليار، وإلى الآن لم يدخل حضرموت ريال واحد».
آراء
وبهذا الصدد، يرى اللواء ركن خالد أبو بكر باراس أن «مشكلة حضرموت وأبنائها تكمن في تجاهل الآخرين لخصوصياتها المترسخة منذ قرون، كرفضها للعنف واستخدام القوة كوسيلة لحل الصراعات». وفي مقال مطول يضيف باراس أن «هناك مشكلة أكثر خطورة لها علاقة بالثروة والسلطة، خلفياتها ليست قديمة، فهي نتاج عصرنا وعلاقات جيلنا عموماً، حيث ينظر البعض لحضرموت كأرض اعتادوا تبعيتها لهم، ورسخ هذا الفهم حتى كاد أن يصبح من المسلمات، فيما يعتبر آخرون أن حضرموت أرض تابعة لهم تاريخياً. وجميع أولئك لا مكان في حساباتهم وتفكيرهم لأبناء هذه الأرض، فالأولوية في الوظائف ليست لأبناء حضرموت، كما أنه ليس متاحاً إدارة ثروة حضرموت من داخلها في ظل الأوضاع الراهنة، وهذا ما يحز في النفس».
تقرير مصير
من جهته، يعتقد وزير الصناعة والتجارة الأسبق، سعد الدين بن طالب، أن «المطالبة بموقع حضرموت في أي حل مستقبلي لقضية الجنوب أو اليمن أمر مشروع وفق ما خرج به مؤتمر حضرموت الجامع، لذا يجري استخدام أدوات الارهاب الفكري لطمس هذا المطلب». وفي منشور له على صفحته في «فيس بوك»، يلفت بن طالب إلى أن «هذه أمور مصيرية وليست مناورات سياسية يقوم بها ساسة ليس لهم تمثيل شعبي صريح»، محذراً من تكرار «الأخطاء التاريخية مثل ما حصل في الأعوام 67 أو 90، التي طغى عليها التصرف العاطفي غير المدروس. فأي مشروع مستقبلي لحضرموت يجب أن يكون محدد المعالم، ومتفقاً عليه، ويقبل به أبناؤها كي يلبي طموحاتهم المحددة في مخرجات مؤتمرهم. ولا يحق لأي أحد مواجهة هذه المطالب الواضحة بتهم التخوين، لأننا نعتقد أن الزمان السابق قد ذهب بكل مآسيه وإحباطاته، وعليه يجب أن تكون الدولة المنتظرة دولة الحرية والعلم والعدالة، فنحن نطلب رقياً في التعاطي مع أمور مستقبلنا، ولا نريد أن تخطف أرضنا من جديد».
«يا حضرموت افرحي»
في المقابل، كتب الناشط، ياسر بلحتيش، قائلاً: «يا حضرموت افرحي بترولنا بايجي… الفقر ولّى وراح»، موضحاً أن «هذه الأغنية تغنت بها الجماهير في ذاك الزمن عند تحقيق الوحدة التي استباحت أرض حضرموت وثروتها، لكن الأغنية لم تكن في محلها ولم تنطبق على الواقع، وظلت الجماهير تصدق كلمات الأغنية حتى انكشفت لها الوقائع، وأن الأمور تجري على العكس ذلك تماماً. فقد نُهبت ثروات حضرموت واستبيحت أراضيها وهمش أبناؤها وكأنهم ليسوا قادرين على حمايتها، وليس لهم الحق في العمالة في أرضهم. واليوم بدأت الأمور بالتغير، وانسحب الجيش من الأرض الحضرمية ومن ثروة حضرموت، حتى بسط الحضارم أيديهم على ثروتهم ليحموها، ويثبتوا أن باستطاعتهم حماية أرضهم وردع كل من تسول له نفسه المساس بثروتهم. فقد بدأت بشائر الخير تلوح في الأفق لترتيب وضع حضرموت، هذه الأرض المليئة بالثروات النفطية والمعدنية، حيث قدِمت اللجنة الإماراتية للاشراف والاطلاع على الشركات، والتقت بعدد من المرجعيات القبلية في حضرموت. ويبدو إن إخوتنا الخليجيين باتوا مهتمين بحضرموت أكثر من أي وقت مضى».
مصالح خاصة
وما بين المتفائلين والمتشائمين، يرى مراقبون أن أياً من الأطراف المتصارعة على حضرموت، ذات الموقع الإستراتيجي والغنية بالثروات، لا يقدم على خطوة إزاء هذه المحافظة إلا إذا كان فيها إفادة لمصالحه. هكذا، وبعد مرور حوالى عام من إعلان المحافظة «محرّرة»، وسيطرة «التحالف» الذي تقوده السعودية عليها، ما يزال أبناء حضرموت، بحسب المراقبين، بعيدين عن الإمساك بزمام أمورهم، وهو ما سيضعف دورهم وموقعهم في أي تركيبة يمكن أن يرسو عليها شكل الدولة في اليمن، سواء كانت اتحادية من عدة أقاليم، أو فدرالية من إقليمين، أو غيرهما. في المقابل، يجتهد «الجناح السعودي» في «الشرعية»، ممثلاً بالرئيس عبد ربه منصور هادي ونائبه علي محسن الأحمر وحزب «الإصلاح»، في إحكام قبضته على الموارد النفطية في المحافظة، فيما يعزز «الجناح الإماراتي» سيطرته على المرافق الحيوية، ومنها الموانئ والمطارات، ويعمل على تقوية الكتائب العسكرية التي شكلها في حضرموت، من أجل تكثير أوراق قوته في الجنوب بمواجهة خصومه.