الجعجعةُ في كوريا والطحينُ في سوريا
عبدالعزيز أبو طالب
على غير العادة تطالعُنا مراكزُ الأبحاث الأمريكية بتقريرها الأسبوعي الأخير 5/5/2017 والذي يحمِلُ الكثيرَ من الصراحة والوضوح والموضوعية في التحليلِ تجاه القضايا الساخنة في المنطقة العربية وشرق آسيا.
فبعدَ الضربات العدوانية على مطار الشعيرات تداوَلَ الناشطون نكتةً سياسيةً عندما سأل أحدُهم الإدَارَة الأمريكية: لماذا تضربون في سوريا ولا تضربون في كوريا الشمالية؟. فأجاب المسؤول: “لأن كوريا ليس لديها نفط، ولا تجاورها إسرائيل”!! يبدو أن الحقيقة ليست بعيدةً عن مغزى هذه النكتة السياسية.
افتُتح التقريرُ الأُسْبُوْعي لمراكز الأبحاث الأمريكية بالمرور على الوضع السيء الذي تعاني منه إدَارَةُ ترامب في مسلسل الفشل المستمر، حيث أَكَّـدَ أن ترامب في الآونة الأخيرة انخرط في الترويج لتجميلِ صُورته المهتزة داخلياً بشدة؛ للحفاظ على جمهوره – أَوْ ما تبقى منه – عقبَ سلسلة مستمرة من الفشل والفضائح طالته وعدداً من مساعديه ومستشاريه، ولكن ورغم انشغاله في صراعاته اليومية إلا أن ذلك لم يكبْحَ جماحَه عن التصعيد العالمي، وهو ما يمكن تعليلُه بتصدير أزماته الداخلية، فها هو ترامب يقرع طبول الحرب في كوريا الشمالية التي تعتبر الحديقة الخلفية للعملاقين النوويين الروسي والصيني، وبمساعدة من امبراطوريات الاعلام الأمريكي المتخصصة في هذه المجالات الدعائية.
وسط هذا الصخب من أصوات الطبول الأمريكية يستدرك التقريرُ أن قليلاً من التدقيق الهادئ في طبيعة المُؤَسّسة الأميركية وهاجسها “لحماية مصالحها القومية الممتدة عبر العالم” يقودُ المرءَ إلى نتيجة مغايرة. وهذه النتيجة هي أنه لا حرب في كوريا الشمالية، بل الحرب هناك في المنطقة العربية وَتحديداً في سوريا، حيث يفترض أن تدورَ تلك الحرب على جانبي الحدود السورية الأردنية والتي شهدت تحشيداً وتجهيزاً لمدة تزيد على السنتين، أي أن ذلك الصراخ على كوريا ليس سوى تغطية لصرف النظر عن الهدف الحقيقي.
لُغزُ دير الزور:
أورد التقريرُ معلوماتٍ وَتحليلاتٍ أقلُّ ما توصف به أنها واقعيةٌ وشفَّافة، فعندما يتكلم عن لُغز دير الزور يكشف بكل بساطة أن قوى الهيمنة العالمية، من مراحل الاستعمار إلى الامبريالية والعولمة، تدرك يقيناً أن تحقيق أَهْدَافها السياسية والاقْتصَادية مترابط عضوياً بقدراتها العسكرية على تطويع واستغلال الموارد الطبيعية في البلد المستهدف (سوريا).
فبعد فشل خطة ما يسمى “كيماوي خان شيخون” وفشل تحميل سوريا مسؤولية ذلك، وبعد اندحار وكلاء الولايات المتحدة الإرهابيين في سوريا – خَاصَّـة بعد تحرير الجيش العربي السوري لحلب-، عدّلت واشنطن وجهتها، وحسب التقرير فإن واشنطن ما بَرِحت تعمَلُ على “زعزعة استقرار سوريا”، وهو ما نطق به المتحدِّثُ باسم البيت الأبيض شون سبايسر، على أن تبدأَ الخطة باحتلال شريط الجنوب السوري والذي سيمهِّدُ لانطلاق العملية العسكرية شمالاً لمدينة دير الزور، وإنشاء “منطقة حظر طيران” من قبَل واشنطن على كامل تلك البقعة. الأمر الذي كان سيؤدي إلى تقسيم الجغرافيا السورية “كأمر واقع”.
على نفس الصعيد يتحدث التقريرُ عن فضيحة أسلحة بلغارية كبيرة بتمويل سعوديّ وتوجيه أمريكي، ووِجْهتها، أفصح عنها نائبُ قائد “الجيش الحر” العقيد مالك الكردي، في مقابلة أدلى بها لصحيفة بلغارية حين قال: “تم إنشاء مقري عمليات في كُلّ من تركيا والأردن؛ من أجل ضمان التعاون بين الأجهزة الخَاصَّـة (الاستخباراتية) لـ 15 دولة. قُمنا بتحذير الولايات المتحدة والاتِّحَـاد الأوروبي من أن الأسلحة التي تُسلّم لمقري العمليات تجد طريقها مباشرة إلى أيدي المنظمات الارهابية”.
من جهة أُخْـرَى اعتبر التقرير أن توجه الإدَارَة الأمريكية نحو الانخراط المباشر في الحرب على الأرض السورية وَترك الاعتماد على الجماعات الإرهابية إنما جاء بناء على خطة مطابقة قدمها مركز بروكينغز الشهير عام 2015 ناشد فيها المركز صُنّاع القرار العدول عن استخدام وكلائهم الإرهابيين بعد أن “فقدت المُؤَسّسة الأمل بتحقيق أَهْدَافها مواربة وبالوكالة”!!.
ولكن لماذا دير الزور؟ يجيب التقرير أن دير الزور تحوي مخزونات هائلة من النفط في حقل العُمر “وهو من النفط الخفيف وعليه إقبال كبير في أَسْوَاق الطاقة، وذو قيمة اقْتصَادية عالية ويصلح لاستخراج وتكرير وقود الطائرات والديزل”.
كما أن خط أنابيب الغاز القطري الذي كان من المفترض أن يزوِّدَ الأَسْوَاق الأوروبية بالغاز، في مسعىً أميركي لتهميش الغاز الروسي كان سيمر من دير الزور، كما نص عليه الاقْتصَادي الأميركي مارتن آرمسترونغ. الذي أَكَّـدَ “أن التقديرات الاقْتصَادية المتوفرة حالياً تشير إلى مخزون ضخم من النفط الخام في هضبة الجولان السورية “يفوق حجم المخزون لدى السعوديّة”.
يضيف التقرير: “جديرٌ بالذكر عند هذا المفصل الرئيس التوقف عند الهجوم الجوي الأميركي على موقع “جبل الثردة” للجيش السوري في دير الزور، قبل بضعة أشهر، لأزيد من ساعة راح ضحيته نحو مائة عسكري سوري بين شهيد وجريح “بطريق الخطأ”. الموقع الجبلي هو “استراتيجي لحماية دير الزور من السقوط في أيدي داعش، ” حسبما وصفه الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة صحفية نهاية نيسان الماضي؛ بغية تقويض سيطرة الدولة السورية تمهيداً للمرحلة المقبلة من العدوان”. ليصل التقرير إلى استنتاج حقيقة هامة وهي أننا أمام: “تكرار تجربة غزو العراق لاحتلاله والسيطرة على موارده الطبيعية الضخمة”.
الدور الإسرائيلي
لم يتعمد التقرير إخفاء الدور الإسرائيلي بل أَكَّـدَ على أنه بارز تلقائياً وبصورة نشطة فيما أسماه معادلة “السيطرة والاحتلال”، “كما أنه يعيد إلى الأذهان إصرار إدَارَة الرئيس أوباما، منذ عام 2011، على أن الهدف الأميركي والغربي في سوريا هو اسقاط النظام؛ ولا يزال هدفاً استراتيجياً قيد التنفيذ منذ خمسينيات القرن المنصرم.
تقويضُ مكانة الصين وروسيا هدفٌ دائم
في الشأن الدولي وخَاصَّـة العلاقة بين الأقطاب المتصارعة دولياً تناوَلَ التقريرُ السعيَ الأمريكي المتواصل لتقويض مكانة العملاقين الخصمين للولايات المتحدة الأمريكية: الروسي والصيني، ففي عهد الإدَارَة الجديدة “أجمع المراقبون للسياسة الأميركية على أن مفاصل قراراتها تسلمها القادة العسكريون وأجهزة الاستخبارات، برضى تام من الرئيس ترامب عقب محاصرته بفضائح سياسية وأَخْلَاقية. أبرز تجلياتها تراجُعُه عن وعوده الانتخابية، والتبشير بمناخ تصالحي مع روسيا تحديداً، وتعاون معها في الشؤون الدولية”.
ثم يوجز التقرير خلاصة موقف القادة العسكريين الأميركيين بما أدلى به مستشار الرئيس ترامب لشؤون الأمن القومي، الجنرال هيربرت ماكماستر، مطلع مايو 2016، محذراً من “العدوان الروسي”. وقال “.. المطلوب لردع دولة قوية تقوم بشن حرب محدودة لتحقيق أَهْدَاف محدودة.. هو الردع الاستباقي.. (أي) اقناع الخصم بأنه غير قادر على تحقيق أَهْدَافه بكلفة معقولة”.
نقل التقرير موقفَ أبرز اقطاب معسكر الحرب ضمن الساسة الأميركيين، وهو السيناتور جون ماكين، الذي أضاف لميزانية وزارة الدفاع السنوية مبلغ 7,5 مليار دولار “لتعزيز القدرات العسكرية الاميركية في آسيا والمحيط الهاديء …” تمهيداً لما أسماه “تصعيد التهديدات الموجهة ضد كوريا الشمالية، وتحقيق الهدف الأميركي بعيد الأجل بنشر نظام مضاد للصواريخ (ثاد) في كوريا الجنوبية الذي كان ينقصه الذريعة لنشره سابقاً.
وعن موقف كوريا الجنوبية الرافض لتسديد كلفة نظام الصواريخ المضاد “ثاد” رأى التقرير أنه يأتي في سياق منسجم مع مصالحها بعدم نشوب الحرب مع الجارة الشمالية التي ستكون هي -كوريا الجنوبية – مسرحها وضحيتها الأولى.
من جهة أُخْـرَى التنين الصيني قرأ نشْرَ تلك الصواريخ من زاويته المتخوفة من النيات المبيَّتة لدى الإدارات الأمريكية تجاه بكين، بأن تلك الصواريخ موجهة ضدها بالدرجة الأولى وتستهدف محاصرتها إلى جانب روسيا بقواعد عسكرية ونظم صواريخ أمريكية. مضيفاً أن الهدف الأمريكي ليس “تقويض حضورهما الدولي فحسب، بل لفرض قيادة القطب الأميركي الأوحد على العالم بأكمله”.
وعليه لاحظ التقرير أن الرفضَ الصيني للتواجد الأميركي كان أشدَّ وضوحاً من نظيره الروسي، بحسب المتخصّصين في الشؤون الآسيوية في واشنطن، بينما رصد التقرير تصريحات الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الصينية، غينغ شوانغ، مطلع الأُسْبُوْع الماضي الذي أوضح أن موقف بلاده “واضح وصارم: نعارض نشر نظام “ثاد” في كوريا الجنوبية ونناشد الجهات المعنية إيقاف نشر النظام على الفور. ونحن على أتم الاستعداد لاتخاذ تدابير ضرورية لحماية مصالحنا”.
من جهته الجانب الروسي، وعلى لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف، اعتبر نشر نظام (ثاد) بمثابة “عنصر إضافي لعدم الاستقرار في الإقليم.. ويؤثر مباشرة على قواتنا الاستراتيجية، وله تداعيات سلبية على الأَوْضَاع الأمنية ليس في روسيا فحسب، بل في الصين ودول أُخْـرَى”.
شُكراً كوريا الشمالية
في سياق تفسيره لما يجري في شبه الجزيرة الكورية من منظور البُعد الأيديولوجي الأمريكي تناول التقريرُ ترحيبَ مركز المصالح الوطنية بواشنطن، الذي عدّل هُويتَه عام 2011 من مركز نيكسون للسلام والحرية، والذي أوضَحَ على لسان مديره العام، هاري كازيانيس، أنه ينبغي علينا “توجيه الشكر لكوريا الشمالية” التي بتجاربها الصاروخية وفرت الذريعة الكافية لواشنطن نشر ترسانتها العسكرية بالقرب من الصين وروسيا. واستدرك بالقول إن نظام (ثاد) “عديم الفائدة أمام صواريخ كروز النووية الروسية وسلاح الجو الروسي “على المسرح الأوروبي؛ مما يعزز تنبؤات الجنرال ماكماستر بالحرب الاستباقية بعيدا عن أوروبا والولايات المتحدة. ماكماستر لا يضمر “عداءه المتأصل ضد روسيا” في أيّ محفل أَوْ مناسبة.