كل ما يجري من حولك

مأزق البيعة بين يمين الطلاق والعتاق

331

متابعات | كتابات | احمد الحبيشي

دخل نظام البيعة في تاريخ الخلافة الأموية والعباسية مأزقاً تاريخياً بعد ارتباطها بيمين الطلاق والعتاق وهو ما لم يعرفه المسلمون في عهد الخلافة الراشدة، وقد تجلى هذا المأزق في تحول المذهب السني بالاتجاه المعاكس لموقف المسلمين الأوائل الذين رفضوا الطاعة المطلقة للحاكم، وسار على طريقهم بعض المتأخرين من فقهاء أهل السنة أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي ، فيما ذهب ابن حزم الأندلسي في كتاب (الفصل في الملل والنحل والأهواء، ج 4 ص 169 – 170).. إلى النصح (( بالتريث وعدم المبادرة إلى خلع الإمام الفاسق قبل التمكن من إزالة ظلمه وإقامة الحد عليه )) ، وأوجب ابن حزم ضرورة قيام الأمة بعزل الإمام بالقوة وعدم جواز طاعته إذا ما خالف الشرع، وقال:

الواجب إن وقع شيء من الجور أن ينصح الإمام ويمنع منه .. فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق عملا بقوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة 2) .

وكان الفقهاء الذين يقولون بأن طاعة الحاكم نسبية وليست مطلقة يستندون إلى الكثير من آيات القرآن الكريم التي تنهى عن الظلم، بالإضافة إلى أحاديث منسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأبرزها الحديث الذي أخرجه البخاري عن نافع بن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)، بالاضافة الى الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت عن الرسول: (( سيليكم أمراء بعدي يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله))، وهي روايات تؤكد أن الطاعة نسبية وتجيز للأمة الحق في خلع الإمام الظالم إذا انحرف عن العدل والشورى.

ولئن كانت مواقف هؤلاء الفقهاء من أهل السنة تشكل امتدادا للسلوك الذي التزم به الصحابة والتابعون من السلف الأوائل، إلا أنها لم تصمد أمـام تفـــــشي الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي لا تتعارض مع القرآن فقط ، بل وتتناقض مع بعض الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام بدعوتها إلى طاعة الحاكم الظالم بصورة مطلقة، وأبرزها الحديث الذي وضعه حذيفة بن اليمان ونسبه إلى الرسول الأعظم : (( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس. قلت : كيف أصنع يا رسول الله إذا أدركت ذلك. قال : تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)) .

وزاد من ضعف موقف الفقهاء الذين يرفضون الطاعة المطلقة للحاكم، غياب الشورى في ظل نظام الحكم الوراثي وما ترتب عليه من غياب أي دور رقابي لأهل الحل والعقد أو المؤسسات الدستورية والقضائية التي تساعد على التغيير إذا أمكن تجنب الدماء، فيما قام الحكام بمساندة الفقهاء الذين يقولون بالطاعة المطلقة للحاكم براً كان أم فاجرا، وأبرزهم الإمام أحمد بن حنبل الذي قال في كتاب (أصول السنة – الأصل 28 و33 و34) بوجوب السمع والطاعة لأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه، ومن تغلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين. واعتبر ابن حنبل ذلك أصلا من أصول (السنة والجماعة) فيما رأى ابن زمنين الأندلسي الحنبلي أن (السلطان ظل الله في الأرض وأن السمع والطاعة له واجب سواء كان برا أو فاجرا) (ابن زمنين الأندلسي (أصول السنة ص 276).

من جانبه التزم ابن تيمية في عهد السلاطين المماليك بهذا الموقف في كتاب (السياسة الشرعية ص 14 – 28) حيث وصف الحكام بأنهم نوّاب الله على عباده ووكلاء العباد على نفوسهم، وطالب الناس بدفع الحقوق للسلاطين وإن كانوا ظالمين. كما أوجب ابن تيمية الطاعة للحكام الذين يأخذون البيعة قسرا ، وحذر من النكث باليمين الذي ابتدعه بعد البيعة الخلفاء الأمويون والعباسيون (( لأن ما كان واجبـا بدون اليمين فإن اليمين تقويه ولا تضعفه ، ولو صاحبها إكراهٌ عليها)) (الفتاوى – أصول الفقه – ج 35 باب الخلافة والملك – ص 10، 11 و12).

ولئن كانت البيعة قد دخلت مأزق انعدام الشرعية بعد تحولها إلى ممارسة قائمة على القبول بالإكراه والاستحلاف بيمين الطلاق والعتاق، فإن المذهب الملكي السني دخل هو الآخر مأزقا حادا حيث بدا متناقضـا ومرتبكـا بعد إضفائه الشرعية الدينية على الاستبداد من قبل الحكام والخضوع من قبل المحكومين، ووصل هذا المأزق ذروته في ظل اعتقاد أهل السنة بوجوب اشتراط العنصرية القرشية للحاكم ، حيث قام فقهاء المذهب الملكي السني بإضفاء الشرعية الدينية أيضـا على تفويض الوزارة والسلطنة في حالة وجود خليفة قرشي ضعيف أو قاصر، أو في حالة عزل الخليفة واستبداله بآخر عن طريق القوة .. وكما هو معروف فقد كان الفقه السني يعطي شرعية مطلقة للخلفاء الذين استولوا على السلطة بالقوة والقهر والغلبة أو ورثوها من آبائهم بالوصية وبدون شورى أو رضا الناس عامة، ويوجب على الأمة طاعة الحكام حتى وإن جاروا وفسقوا وفجروا ، ويرفض السماح للناس بخلعهم . بيد أن ذلك الفقه كان يناقض نفسه حين يعترف بالأمر الواقع، ويعطي الشرعية لمن يتغلب ويخرج على الخلفاء وينتزع السلطة منهم بالقوة، حتى وإن كان الخليفة المعزول يتمتع بالصلاح والتقوى ، ما أدى إلى أن تكون الثقافة السياسية للسلطة قائمة على القوة فقط.

وقد حدث ذلك عندما أدى الصراع الداخلي على السلطة والثروة في النظام العباسي إلى استخلاف أطفال قاصرين أو شباب لاهين خلف الشراب والانغماس في الملذات، الأمر الذي أفسح الطريق لهيمنة أمراء الجيش على الحكام واستيلاء الولاة على الأطراف وفقدان السلطة المطلقة في مركز دولة الخلافة لصالح الوزراء وقادة الجيش الذين استعان بهم الحكام لظلم الناس ونهب أموالهم ، ثم جاء دور هؤلاء للانقلاب على حكامهم، حيث ظهر نمط جديد لإدارة الحكم متمثلا بتفويض الوزارة والسلطنة في ظل وجود خليفة قرشي يتمتع بسلطة رمزية لا غير، على نحو ما حدث عندما قام هارون الرشيد بتفويض الوزارة ليحيى بن خالد البرمكي تفويضـا عامـا ومطلقـا وقال له : (( قد قلدتك أمر الرعية وأخرجته من عنقي إليك فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب واستعمل من رأيت واعزل من رأيت ودفع إليه خاتمه ثم فوض جعفر بن يحيى الأمور في وقت لاحق إلى أن قتله بصورة مفاجئة سنة 187 هجرية)) (تاريخ الطبري ج 4 ص 620 – 664). كما تكرر ذلك أيضـا عندما تولى الخليفة جعفر المقتدر بالله الخلافة سنة (295 – 320) وعمره ثلاث عشرة سنة، ثم قام بتفويض الخلافة إلى الوزير علي بن محمد بن الفرات (السيوطي – تاريخ الخلفاء ــ ص 351)، وكذلك عندما قام أخوه القاهر بالله بتفويض الوزارة إلى أبي علي بن مقلة (القلقشندي – مآثر الأناقة في معالم الخلافة – الجزء الأول ص 279).

وعندما استولى البويهيون ــ وهم إحدى فرق الشيعة ــ على بغداد عاصمة الدولة العباسية قام صقر الدولة بالحجر على الخليفة المستكفي بالله، ثم خلعه من الخلافة وبايع المطيع بدلا عنه (السيوطي – تاريخ الخلفاء – ص 367 – 368)، وظل المطيع خليفة بالاسم فقط إلى أن خلعه ابنه الخليفة الطائع عبدالكريم الذي قام بدوره بتتويج عضد الدولة البويهي وفوض إليه السلطنة كاملة، وبعد وفاة عضد الدولة قام الطائع بتفويض فخر الدولة البويهي تفويضـا كاملا، حيث قام الأخير باعتقاله وإجباره على الاستقالة ثم عين بدلا عنه الخليفة القادر بالله الذي فوض السلطنة إلى بهاء الدولة بعد وفاة أخيه فخر الدين البويهي !!.

وبعدا تولي الخليفة العباسي القائم بأمر الله الحكم كانت السلطة بيد بهاء الدولة فقام الخليفة القائم بتفويضه إدارة شؤون الخلافة بالكامل . واستمر هذا الوضع بعد سقوط البويهيين الشيعة على أثر استيلاء السلاجقة على السلطة واحتلال بغداد في منتصف القرن الخامس الهجري ، حيث استدعى الخليفة القائم بأمر الله زعيمهم طغرلبك وفوضه الحكم قائلا : (( إن الخليفة قد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاد وأرض ومال ورعية )) (القلقشندي – مآثر الأناقة في معالم الخلافة – ج 1 – ص 334).

لم يكتف الخلفاء العباسيون بهذا الحد من تفويض السلطنة إلى القادة العسكريين بل فوضوها إلى أطفال من أبناء هؤلاء القادة على نحو ما قام به الخليفة المقتدي بأمر الله الذي فوض السلطنة للطفل محمود بن ملكشاه السلجوقي وعمره خمس سنوات، وعندما خرج عليه أخوه الكبير السلطان بركياروق وعزله ، قام الخليفة أيضـا بتقليده السلطنة ، وكذلك الحال عندما قام الخليفة المستظهر بالله بتفويض السلطنة إلى الطفل جلال الدولة ابن السلطان بركياروق السلجوقي ، إلى أن خرج عليه عمه محمد فقلده الخليفة السلطنة بدلا عنه (المصدر نفسه ص 295) . ولم ينحصر حال الخلافة العباسية في تفويض السلطنة عندما كانت في بغداد ، بل انتقل هذا الحال بعد سقوط بغداد بيد المغول وانتقال الخلافة العباسية إلى مصر في ظل المماليك، حيث استمرت هناك لمدة مائتي عام لم يكن للخلفاء القرشيين خلالها سوى الحضور الرمزي ، بينما كانوا يقومون بتفويض السلطنة للمماليك.

وعلى الرغم من أن عملية التفويض كانت تتم بالقوة وبصورة قسرية وعن طريق الانقلابات العسكرية، بمعنى أنها كانت خروجـا على الطاعة المطلقة للحاكم وفقـا لما كان يعتقد به فقهاء المذهب الملكي السني، إلا أن هؤلاء الفقهاء كانوا لا يترددون في إضفاء الشرعية الدينية عليها، وهو ما فعله ابن تيمية في دعمه للسلطان المملوكي محمد بن قلاوون، وما فعله أيضـا فقهاء آخرون من أهل السنة أمثال الماوردي وأبو يعلى الفراء وابن جماعة والجويني وغيرهم من الفقهاء الذين كتبوا مؤلفات فقهية عديدة حول شرعية (إمارة الاستيلاء) ،وأجازوا فيها لمن تم تفويضه بالوزارة أو السلطنة ممارسة الاستبداد في تقليد الولاة، والتفرد بتسيير الجيوش وتدبير الفتوحات والتصرف في أموال بيت المال، فيما قال ابن جماعة (( إذا استولى ملك أو سلطان بالقوة والقهر والشوكة على بلاد فينبغي للخليفة أن يفوض أمورها إليه استدعاء لطاعته فيصير بذلك التفويض صحيح الولاية نافذ الأحكام)) (ابن جماعة – تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام – ص 420).

ما من شك في أن إضفاء الطابع الديني على نظرية طاعة ولي الأمر والصبر عليه حتى وإن كان ظالمـا ومستبدا ومنتهكـا لحقوق الناس وناهبـا لأموالهم ، يعتبر سببـا رئيسيـا في تعطيل المجتمع السياسي وتأسيس ثقافة استسلامية تعود جذورها إلى معتقدات المذهب الملكي السني، وأبرزها عقيدة القـدر والجبر التي صاغها الفقهاء المؤسسون للمذهب الملكي السني في العهد الأموي بعد تحول الخلافة إلى نظام ملكي وراثي استبدادي بهدف تخدير الناس ودفعهم للرضوخ والخضوع للاستبداد.

وعلى تربة ما قام به فقهاء النظام الأموي اعتقد الإمام أحمد بن حنبل وأهل الحديث وفي مقدمتهم (الحشويون) بنظرية الجبر تطبيقا لإيمانهم المطلق بالأحاديث التي نشرها القُصاص والوضاعون في العهد الأموي ، بشأن تعريف القدر بمعنى الجبر واعتبروا هذه العقيدة ركنـا من أركان السنة.وبمــوجب هـــذه العقيدة يتم سلب حرية ومسؤولية الإنسان عن فعل أو اختيار أي شيء سواء كان ذلك في باب الطاعة أو المعصية. وقد شدد الإمام أحمد بن حنبل على ضرورة تصديق تلك الأحاديث والروايات، والتسليم بها بدون أن يقال لها (لمَ وكيف). وروى عبدالله بن أحمد بن حنبل إن رجلا سأل أحد القضاة هل الزنا بقَدَر؟ فقال : نعم. قال : (( كتبه الله عليّ ويعذبني عليه ، فأخذ له القاضي حصى ليضربه بها)) ( عبدالله بن أحمد بن حنبل – كتاب السنة – فقرة 933).

ولما كان تعريف القدر بالجبرية يعني إلغاء الثواب والعقاب في الآخرة على أساس العمل الصالح أو المعاصي، ويتعارض مع جوهر الإسلام الذي يقوم على فكرة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أمام (أهل الحديث) من أتباع المذهب الملكي السني سوى النهي عن النقاش والجدل في هذا الموضوع، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك وهو إنكار فكرة الابتلاء في الدنيا، وزعموا بأن الله فضل المؤمنين على الكافرين ومع ذلك فإنه قد يعذبهم في الآخرة ويدخلهم في النار، لأن الخلق خلقه والدار داره، والله لا يسأل عما يفعل.. ومن يقول عكس ذلك فهو صاحب بدعة. ( الإمام البربهاري – شرح السنة – ص 27 – 28 – 29).

وتعود جذور تعريف القدر بمعنى الجبر إلى الأمويين الذين استخدموا هذا التعريف لتبرير اغتصابهم السلطة وتحويل الخلافة إلى ملك وراثي عضوض وإلغاء العمل بالشورى، من خلال الزعم بأن الله ساق إليهم الخلافة بسابق علمه قضاء وقدرا . بمعنى أنه كان يعلم منذ الأزل بأنهم سيستولون على الحكم. ولذلك أطلقوا على أنفسهم اسم (خلفاء الله)، واعتبروا الملك هبة وعطاء لهم من الله، على نحو ما عبر عنه معاوية بن أبي سفيان عندما دخل الكوفة بعد توقيع معاهدة الصلح مع الحسن بن علي قائلا : (( إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون) ) (ابن كثير – البداية والنهاية – الجزء 8 ص 131). وفي سياق متصل قال معاوية لوفد من أهل العراق جاءه إلى دمشق: (الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذت فلي من الله وما تركته للناس فبالفضل مني لهم.. إنه لملك أتانا الله إياه) (الطبري – تاريخ الرسل والملوك ج 5)، كما تحدث عن هذه العقيدة زياد بن أبيه والي معاوية على العراق في خطبة البتراء أمام أهل البصرة بقوله : (أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذاده، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بعين الله الذي خولنا).. (ابن الأثير – الكامل في التاريخ – الجزء 3 ص 449).

وتأسيسـا على ما تقدم يمكن القول بأن معاوية بن أبي سفيان وكل الخلفاء الأمويين باستثناء عمر بن عبدالعزيز وولاتهم كانوا يعتبرون تحول الخلافة إلى نظام ملكي وراثي قضاء وقدرا ، وهو ما دفع عطاء بن يسار ومعبد الجهني إلى القول :

((إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون : إنما تجري أعمالنا على قـدر الله تعالى)). (رشيد الخيون – معتزلة البصرة وبغداد – ص 38). وحين غضب الخليفة عبدالملك بن مروان من أبي الحسن البصري واتهمه بإحداث القول في القَدر كتب أبو الحسن البصري إلى عبدالملك بن مروان قائلا : (اعلم يا أمير المؤمنين أن الله لم يجعل الأمور حتمـا على العباد، ولكن قال إن فعلتم كذا فعلت بكم كذا، وإنما يجازيهم بالأعلام)، واستشهد ابو الحسن البصري بعدد كبير من الآيات القرآنية الكريمة التي تؤكد مسؤولية الإنسان عن أفعاله، ومنها (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) (الأعراف 96) و(لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) (المدثر 37 )، و(كل نفس بما كسبت رهينة) (المدثر 38) و(ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) (الزمر 7) و ( ان الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد 11 ). ( واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين. وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ( البقرة 194 ــ 195 ). واختتم البصري رسالته الموجهة إلى الخليفة عبدالملك بن مروان : (فلو كان الكفر من قضاء الله وقدره لرضي ممن عمله ) ( الطبري ــ تاريخ الرسل والملوك ــ الجزء الرابع ص 227 ــ 230 ).

ويتوجب علينا الإنصاف بالقول إن الإمام أحمد بن حنبل كان يكره إطلاق صفة الخليفة على من تولى الحكم بعد الحسن بن علي بن أبي طالب، انطلاقـا من تصديقه وتسليمه بالحديث الذي وضعه المؤسسون الأوائل للمذهب الشيعي الامامي ، ولم يلق اعتراضـا من معاوية بن أبي سفيان ثم نسبوه إلى الرسول الأعظم : (الخلافة بعدي ثلاثون وبعدها ملك عضوض)، حيث رحب معاوية بهذا الحديث قائلا : (ونحن نقبل الملك).. ولذلك فقد كان أحمد بن حنبل يعتبر حكام المسلمين بعد هذا الحديث ملوكـا وسلاطين . وبوسع من يقرأ كتب التاريخ المعتبرة عند أهل السنة مثل كتب الطبري وابن الأثير وابن خلدون والسيوطي وابن كثير ملاحظة أن تاريخ الملوك (أو الخلفاء) المسلمين منذ تحول الخلافة إلى نظام ملكي وراثي كان تاريخـا للصراع الدنيوي على السلطــــة والثــروة، فيـــما أصبح الخلـــفاء ملوكا يصلون إلى السلطة بواسطة القهـــر والقـــوة والغلبة والوصية والعهد والاستحلاف بالله بعد البيعة الإجبارية بعيدا عن الشورى والمراقبة والنقد والمحاسبة.

وبحسب كتاب تاريخ الطبري وتاريخ الخلفاء للسيوطي فإن عددا من الخلفاء كانوا يشربون الخمر علنـا في مجالسهم ومنهم الخليفة العباسي الهادي حسبما يقول السيوطي في تاريخ الخلفاء نقلا عن الإمام الذهبي، بالإضافة إلى الخليفة المتوكل الذي تبنى المذهب الحنبلي وألغى العمل بمذهب المعتزلة فور وصوله إلى الحكم بعد وفاة أخيه الخليفة الواثق، حيث تميز المتوكل بالانهماك في اللذات والشراب واللهو (ص 323) ، أما الخليفة المقتدر بالله فقد ( كان خاضعـا للنساء) (356)، فيما كان الخليفة القاهر سفـاكـا للدماء ومدمنـا على الخمر (359).

وقبل هؤلاء كان الوليد بن يزيد بن عبدالملك قد وصل إلى الحكم في العهد الأموي بناء على وصية أبيه بولاية العهد إليه بعد أخيه هشام، حيث تسلم الوليد سدة الحكم على إثر موت أخيه هشام في شهر ربيع الآخر 125 هجرية، ((وكان فاسقـا فاجرا ، وقد رشق القرآن بالسهام حتى سمي فرعون الأمة)) ، بحسب ما نقله السيوطي عن الإمام شمس الدين الذهبي في كتابه (تاريخ الخلفاء ص 234)، ما أدى إلى الخروج عليه، وقتله على أيدي يزيد الناقص، فيما تبرأ منه أخوه سليمان بن يزيد، وقال عندما شاهد رأسه مغروسـا في رمح : (( بعدا له، أشهد أنه كان شروبـا للخمر، وماجنـا وفاسقـا، ولقد راودني على نفسي )) ( السيوطي ــ تاريخ الخلفاء ص 233).

وتأسيسـا على ما تقدم يمكن القول إن ثمة التباسـا نشأ عبر التاريخ بين الاستبداد والإسلام بما في ذلك الفكر الملكي الذي التبس هو الآخر بالفقه الإسلامي السني ، خصوصـا بعد ظهور ما يسمى بالفقه السلطاني في أحضان المذهب الملكي السني.. وقد أدى انتشار وتغوُّل هذا الفقه الملكي السلطاني إلى تخلف المسلمين وانحطاطهم ودخولهم نفق التخلف والاستبداد والاستعمار، الأمر الذي أسفر عن ظهور حركات إصلاح إسلامية استهدفت ــ ولا زالت تستهدف ــ في المقام الأول إعادة بناء الفكر السني وإكسابه مضامين ديمقراطية معاصرة من خلال نقد فقه الاستبداد، والانفتاح على الثقافة السياسية الديمقراطية، التي تؤمن بالتعددية والتنوع والتداول السلمي للحكم وانتخاب الحكام وهيئات سلطة الدولة من قبل الأمة عبر انتخابات تنافسية حرة ومباشرة بواسطة صناديق الاقتراع، وصولا إلى ممارسة الرقابة على شاغلي الوظائف العليا من خلال آليات دستورية تضمن حقوق المشاركة الشعبية في إدارة شؤون الدولة والمجتمع المدني، بما فيها ضمان حق المعارضة في التعبير عن آرائها حول أسلوب إدارة الحكم بواسطة الاحتجاجات والمظاهرات السلمية والصحافة الحرة،وهو ما يشكل أبرز ملامح المشروع الوطني الديمقراطي للرئيس علي عبدالله صالح على طريق الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن الثورة إلى الدولة ، الأمر الذي يستلزم مزيدا من المقاربة الموضوعية لرصيد الرئيس علي عبدالله صالح في مجال بناء الدولة الوطنية الحديثة ، بما ينطوي عليه هذا الرصيد من قطيعة تاريخية مع الفكر الملكي بشقيه السني والشيعي.

You might also like