كـ”عجوز همنجواي”، يصارع السكان في محافظة الحديدة الجوع في السهل والموت الماطر من الجو والقصف من البحر. مضى على الصياد العجوز 84 يوماً وهو يتجول بزورقه وحيداً في مياه غولف ستريم (كوبا) ولم يظفر بسمكة واحدة. ومضى على الصياد التهامي محمد فتيني 3 أسابيع منذ أن ترك مهنة الصيد. يفصح فتيني، لـ”العربي”، عن مأساته بقوله: “كل يوم خسارة… كل يوم خسارة. تركت الصيد واشتريت موتر (دراجة نارية)، والآن في الجولة تنتظرني أسرتي في المنزل، ولو تغدينا ما نتعشا ولو تعشينا ما نلاقي شيء نفطر به”. فتيني ومثله المئات تركوا مهنة الصيد بسبب الحصار الذي أغلق منافذ التصدير، واستهداف قوارب الصيد من قبل بوارج وطائرات “التحالف” الذي تقوده السعودية.

ميناء مهجور
ساحل يمتد مسافة 329 كم من اللحية شمالاً إلى الخوخة جنوباً، ويتلوى كثعبان أسطوري. تتوسطه مدينة الحديدة وميناؤها الذي هجرته الكثير من السفن التجارية بسبب مضايقة البوارج الحربية، وأفقدته الحرب الإعلامية الكثير من نشاطه قبل بدء معركة اقتحامه من قبل “التحالف”، الذي يصوره للخارج كميناء حربي يمد “الإنقلابيين” بالسلاح الإيراني الذي أجل “حسم” معركته. أربع من الرافعات الخمس أعطبها قصف الطيران في ساحة وحرم الميناء، وكرينات متهالكة تجبر سفن الإغاثة على ملازمة الغاطس لأيام. وفي الشوارع المحيطة تتآكل مئات الشاحنات بفعل الرطوبة وشدة الحرارة مع طول ملازمتها لميناء مهجور، ليصب السائقون لعناتهم على الحظ العاثر والمهنة التي لم تعد “تؤكل عيش”.

 

الساحل الغربي
تتزاحم نقاط التفتيش التابعة لـ”أنصار الله” في الطريق الساحلي، وجميع مسلحيها من أبناء محافظة الحديدة. لقد تمكن السيد عبد الملك الحوثي من عقد تحالفات مع المشائخ الإقطاعيين في السهل التهامي. وفتح شيخ الصوفية، محمد يحيى مرعي، أبواب جامعته (دار العلوم الشرعية) لقيادات “أنصار الله”، ليحضر صالح الصماد ومحمد علي الحوثي وأبوعلي الحاكم ومعهم تحضر “الصرخة والشعار” في احتفالات التخرج بجامعة مرعي. صور حسين الحوثي وطه المداني تقابلك في كل شوارع مدينة الحديدة. يفوق عددها صور الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، التي رفعت في العيد السادس عشر للوحدة اليمنية والذي احتضنته المحافظة عام 2006م. لا شيء يوحي للعابرين بأن الحديدة تعيش لحظات ما قبل المعركة التي يتوعد بها “التحالف”، لكن أكثر من 6 آلاف مسلح من “أنصار الله” أخذوا مواقعهم منذ مطلع العام 2015م برفقة مدافع الهاون والـ”هاوتزر” و”السواحلي” وبطاريات “الكاتيوشا” ومضادات “الكورنيت”، يرقبون حركة البحر من بين أشجار النخيل والدوم والسيسبان والمنجروف، ومع ذلك يبدو الوضع هادئاً في الساحل الغربي.

سلة الجياع
تحتضن محافظة الحديدة مساحة واسعة من السهل التهامي الذي يوصف بـ”سلة اليمن الغذائية”، لكنه اليوم سلة للجياع وعمال الأجر اليومي الذين يتصبب عرقهم في مزارع الإقطاع مقابل أعشاب “القات” وقليل من الفتات. تتقاطر الشاحنات من السعودية إلى شركة علي فرج لتصدير المنتجات الزراعية في شارع الخمسين بمدينة الحديدة. ولا يعبر منفذ الوديعة من منتجات السهل التهامي الى كروش المتخمين إلا ما هو “درجة أولى”، وما دون ذلك يوزع في الأسواق اليمنية ليكتفي الكثير من السكان المحاصرين والمنقطع دخلهم بالنظر إلى المنتجات كترف يفوق قدرتهم الشرائية.
معاناة يومية
يحل المساء كئيباً في مدينة الحديدة. شوارع وأزقة مظلمة وشاطئ يتوجع كما السكان بصمت. رطوبة وغبار وبحر هادئ تعكر سكونه غارات طيران “التحالف” بين الحين والآخر وأمواج خفيفة تنتحر وتتجدد عند أقدام الصخور الناتئة. تتفحص عيون سائقي الدراجات النارية وجوه المارة في دوارات شارع صنعاء بحثاً عن راكب بالأجرة في مدينة تنشط ليلاً وتصحو بتثاقل مع اشتداد حرارة الشمس. يتزاحم العشرات أمام محلات بيع الثلج الذي أصبح الحصول عليه معاناة يومية. فتيات وفتيان يلهب الحر أجسادهم طوال ساعات النهار في الجولات وجوار نقاط التفتيش يعرضون عقود الفل التي تفوح روائح طيبة كطيبة إنسان تهامة. يلحون على المسافرين لشرائها لكن كثيراً ما يكون الرد “ما عاد فيش أحد يشتري فل هذه الأيام… حرب وجوع “.

“نورماندي اليمن”
يشكل تواجد “أنصار الله” في الساحل الغربي مصدر قلق للإمارات قبل السعودية. فالأولى أنفقت المليارات في سبيل لعب دور في الساحل الشرقي للقارة السمراء والقرن الأفريقي والمحيط الهندي، واستأجرت مطار وميناء عصب الأرتيري لـ30 سنة قادمة، كما عقدت اتفاقية مع السلطات في مقديشو لإدارة ميناء بربرة لذات المدة الزمنية. مقاتلات حديثة ومروحيات “شينوك” و”بلاك هوك” وبطاريات مدافع “هاوتزر G6″، وتدريب لآلاف اليمنيين بحسب موقع “وور أون ذا روكس” الأمريكي. إستعراض للقوة من قبل “التحالف” كما كما لو أنه مقبل على “نورماندي” في الساحل اليمني.

الإستعداد لمعركة ساحل الحديدة سبقه قتال لا يزال متواصلاً في جبهتي ميدي شمالاً والمخا جنوباً، والهدف إغلاق جميع المنافذ على “أنصار الله” وحلفائهم، وإحكام الحصار على الجغرافية الجبلية، ومحاكاة حرب العشرينيات من القرن الماضي عندما دعمت بريطانيا الإمام محمد بن علي الإدريسي حاكم صبيا، للسيطرة على تهامة والمناطق الغربية من اليمن، وكذا حرب الثلاثينيات عندما أحكم الإمام يحيى حميد الدين قبضته على نجران وعسير، وتمكنت الحملة التي قادها فيصل بن عبد العزيز من الوصول إلى إلحديدة وأفضت إلى اتفاقية الطائف عام 1934م.
حروب وحملات غزو واحتلال شهدتها الحديدة في ساحلها وسهلها وجزرها من البرتغال إلى الرومان والإنجليز مروراً بالأتراك وغزوات نجد. رافقتها مجاعات وموجات نزوح أكل الناس بسببها الجلود وورق الشجر، وسادت الفوضى وعم الخوف، وهرب الناس بمواشيهم إلى الجبال، وكثر قطاع الطرق… لكن الحديدة، في كل مرة، لم تنفصل البتة عن الكيان اليمني، الذي كان ينتصر دائماً في نهاية المطاف.

– العربي