كل ما يجري من حولك

في ذكرى استقلال وطن تحت الاحتلال .. عدن من كومونة لليسار العربي إلى كومـة ارتـزاق ونفايـات 1 – 3

في ذكرى استقلال وطن تحت الاحتلال .. عدن من كومونة لليسار العربي إلى كومـة ارتـزاق ونفايـات 1 – 3

761

متابعات:

52 عاما هي عمر استقلال وطن وحرية شعب، منذ صبيحة يوم ميلاد فجرهما معا في 30 نوفمبر 1967م.وهي أيضاً عمر كاتب هذه السطور وسنوات توأمته البيولوجية مع هذه المدينة منذ فجر تلك اللحظة التي انتزع فيها ثوار «الجبهة القومية» وتنظيمها السياسي، 

ملك الامبراطورية البريطانية (التي لا تغيب عنها الشمس) من على أسوار درة تاجها الملكي (عدن)، ورفعوا بديلا عنه علم «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية»، وقرروا أن تكون هذه المدينة عاصمة دولتهم الفتية والمستقلة لتوها.

عدن.. عنقاء العرب 

في كل حقب ومراحل تاريخ غزوها ظلت عدن أسطورة أبدية مثل طائر العنقاء العربي استحالة وحضورا ومقاومة.

وكطائر الفينيق هي، تغتلي وتتجدد وتغتلي غضباً وتتفجر جحيماً في وجه كل محتل جاء ليخمد ثوراتها.

وفي كل العصور تنهض من تحت رماد فوهة بركان «كريتر»، وتنفض غبار كل الغزاة عنها، وتحلق في فضاءات حريتها من جديد.

من هنا مر العالم 

إليها جاء كل غزاة العالم، وتتابعت حملات امبراطورياته وممالكه القديمة والحديثة نحوها، من هنا مرت جيوش الروم والفرس، والبرتغاليين، ومن جحيم بوابات ثوراتها خرجوا، كما خرجت منها أيضاً في تاريخها الأحدث، أساطيل وقواعد الامبراطورية البريطانية التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها، وغابت ذات نهار عن درتها عدن إلى الأبد، بعد 129 عاماً من الاستئثار بها منذ أن طمعت بها وزاغت عين الكابتن هنس بموقعها الجغرافي، وجاء إليها غازياً متعذراً بنهب سفينته «داريا دولت» من قبل سكانها، بعد أن تعمد هو إغراقها على ساحلها بالقرب من قلعة صيرة، صبيحة يوم 19 يناير 1819م.

أيقونة كل العصور

تلك حقب ومراحل استعمارية مضت وغارت دهور أزمنتها وسالكيها، وبقيت عدن تحمل ذاكرة وجودها وآثار ماضيها العريق، وتحتفظ بكل ذكرياتها، وتداوي ندوب جروحها، وتعيد ترميم نتوءاتها، وتمضي في دروب مدنيتها، لتشكل أيقونة هويتها الجديدة، وتؤنسن بها على ضفاف خليجها وشواطئها محارات أزمنة حاضرها، و»تعدنن» بها كل آت وكل قادم إليها غير طامع بالاستئثار بها لصالح أطراف أخرى خارج سياق مدنيتها وحريتها.

عدن تذبح بسيوف الخيانة وأنصال الارتزاق 

اليوم، وبعد 52 عاماً على استقلال وطن، تطل الذكرى على المدينة المذبوحة بسيوف الخيانة، وأنصال الارتزاق، وعلى أشلاء سكانها وأطلال أمكنتها المقدسة بعبق التاريخ والحرية، يرقص عبيد المال، وتحتفي خياناتهم بخراب المدينة وسفك دماء أبنائها، فيما يتباهى وكلاء العوالم البعيدة، وشذاذ آفاق الكون وأفاقو الغزو الحديث، بحقد بداوتهم، بسحق أعرق المدن التاريخية وتدميرها بمجنزرات وآليات أسيادهم الغربية، وبتشويه مدنية سيدة مدائنهم النفطية الذائبة، وسلب حرية أبنائها من جديد.

فسيفساء كل الحضارات 

في عدن تستوقفك مسميات ومعالم وأمكنة وشواهد لا حصر لها، تذهب بك بعيدا نحو مجاهل التاريخ ومغارات الأزمنة السحيقة، متحف طبيعي وفسيفساء زاهية بكل الحضارات والثقافات والأديان والأجناس، احتضنتها بحب وجمال وتسامح، مساحة مدينة لا تتجاوز جغرافيتها الطبيعية بضعة كيلومترات.

وفي المقابل يدلك هذا الثراء وتنوعه الإنساني للمدينة، مقارنة بصغر مساحتها الجغرافية، إلى أهمية المدينة وتعاقب الصراع العالمي على الاستئثار بها والتنافس المستمر للسيطرة على موقعها الصغير منذ آلاف السنين. 

سيدة البحار والمحيطات

تستمد مدينة عدن أهميتها وحيويتها من خلال ربطها لعوالم المحيطات والبحار السبعة من خلال موقعها الجغرافي ومينائها كمركز تجاري منذ أكثر من 3000 سنة.

وقد كونت عدن في العهد القديم مع مدينة صور اللبنانية علاقة تجارية تمتد ألفية كاملة لتجارة التوابل التي انتعشت في ذلك العهد، وميزها موقعها بين مصر والهند ليجعلها ذات شأن مهم في طريق التجارة العالمية القديم.

ظلت عدن موطن مملكة أوسان القديمة من القرن الثامن إلى القرن السابع (ق.م)، وفي بداياته شنت مملكة سبأ حملة عليها وقُتل خلالها وفق النصوص السبئية 16 ألف قتيل، وتم استعباد 40 ألفاً من سكانها، وتقديم ملوك أوسان قرابين لآلهة «إلمقه»، واستمر حكم السبئيين لها إلى أن أسقطه الحِميريون عام 275 للميلاد، وسيطروا على عدن.

سقطت مملكة حمير عام 527، بعد أن غزتها مملكة أكسوم عندما أرسل الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول أسطولاً لقتال الحميريين، ودعمته مملكة أكسوم والقوات الحبشية، فدخل الأسطول عن طريق عدن. وتشير المصادر البيزنطية إلى أن الإمبراطورية الساسانية سيطرت على المدينة عام 671 للميلاد.

وفي العصور الحديثة قام ماركو بولو وابن بطوطة بزيارة مدينة عدن في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. 

وفي 1800م تم تطوير ميناء عدن، وبدأ بتقديم خدمات التزود بالوقود والفحم والمياه للسفن البخارية. وازدهرت المدينة واتسعت الخدمات 

المقدمة من قبل الميناء، وخصوصاً بعد فتح قناة السويس عام 1869م، ليصبح ميناء عدن، عام 1950م، واحداً من أكثر الموانئ ازدحاما لتموين السفن بالوقود، ومركزاً للتسوق والتجارة في العالم.. إلا أن نشاطه توقف مع إغلاق قناة السويس حتى عام 1975م، بعد أن تم تغيير المسار التجاري بتغيير المسار الملاحي لحركة البضائع عبر القرن الأفريقي، وهو ما دفع دول الجوار للقيام ببناء موانئها وتجهيزها بأحدث الوسائل لمواكبة ازدياد الحركة.

كومونة اليسار العربي

شهدت المدينة خلال 23 عاما (1967 ـ 1990) تحولات ثورية وحروب رفاق الكفاح المسلح، وكانت شوارع عدن ومسميات أحيائها السكنية وكل أمكنتها، شاهدة على شعارات مراحل تلك التحولات وتوجهاتها السياسية والأيديولوجية، كما هي شاهدة أيضاً على دماء صراعات قياداتها الحزبية ووجاهاتها القبلية والمناطقية.

هنا وحدة الشهيد «وديع حداد» السكنية، وهناك حي آخر باسم «عمر المختار»، وثالث يحمل اسم «لينين» العظيم. وللطفولة مسمياتها فهذا حي «ريمي»، وذاك حي «السنافر»، وللمدارس والمصانع والمعاهد والشوارع نصيبها من مسميات مراحل الثورة والتحرر الوطني وتجربة النهج الاشتراكي والبناء الحزبي والتضامن الأممي.

شواهد ومسميات عديدة حملتها شوارع وأحياء ومعالم مدينة عدن؛ درة التاج البريطاني وعاصمة دولة اليمن الديمقراطية وكومنة اليسار العربي.

تدمير ممنهج

خلال ما يقارب 25 عاماً، وتحديداً في الفترة الممتدة من 1994 إلى 2019م، تعرضت مدينة عــــدن لأشنع تدمير ممنهج من قبل منظومة سلطة عفاش وحلفاء حكمه والمشاركين له في حرب صيف 94م من التيارات الإسلامية وشيوخ القبائل والمتنفذين والفاسدين، الذين لم يكتفوا فقط بتدمير خصمهم السياسي والأيديولوجي، والمتمثل في هزيمة الحزب الاشتراكي اليمني، وسحق نظام دولته والقضاء عليها سياسياً، وطمس كل معالم عاصمتها اليسارية عدن، قبل وحدته مع نظام صنعاء، بل تجاوز تدميرهم لكل معالم عدن المدنية والأثرية والتاريخية لما قبل فترة نظام حكم خصمهم السياسي لعدن.

تحولت قاعة فلسطين في زمن الرفاق، إلى قاعة أروى للأفراح، وصار مستشفى الصداقة مستشفى الوحدة، وغير مواطن بسيط اسم بقالته من بقالة ماريا إلى بقالة عبده ناجي، وتحول منتجع ريدان إلى مسجد الخير، وصار مصنع صيرة بيرة مصنع مشروبات العيسائي الغازية.

فيما أطلق إخوان وحلفاء حرب صيف 94م عشرات المسميات على مدارس عدن، واستبدلت مسمياتها ذات الرموز الاشتراكية والوطنية بمسميات إسلامية لا علاقة لها بتحرير عدن ولا بثوراتها، ليأتي بعدهم خلق آخر، ويستبدلوا أيضاً أسماء المدارس بمسميات جديدة مع طلائها بألوان أعلام سلطات الاحتلال السعودي الإماراتي ورفعها على أسوارها.

تنازل الرفاق عن قلعتهم 

لم تفقد مدينة عدن التي تنازل عنها حكامها عام 90، كعاصمة سياسية لدولتهم، لصالح شقيقتها صنعاء، فقط مكانتها السياسية، بل فقدت مدنيتها كأشهر عاصمة اشتراكية وأجمل أيقونة يسارية، يحج إليها مناضلو حركات التحرر العربية والعالمية وقيادات الأحزاب الشيوعية والتقدمية من مختلف أصقاع الأرض.

كنتم الطليعة.. وزمن الانحسار 

«كنتم الطليعة وستظلون رمزا لنضالات شعبنا اليمني العظيم»، حتى بعد أن انطفأ توهج شعلته وطمست حروف تلك العبارة الثورية في زمن سلطة صالح، أو تم استبدال كلمة اليمني بالجنوبي في زمن الانحسار الثوري والارتزاق والاحتلال الجديد بكل أحقاده وأطماعه، شامخا مازال النصب التذكاري لـ»الجندي المجهول» ينتصب بكبرياء المدينة الثوري وبشموخ جبل شمسان في عليائه في ساحة التواهي أمام فندق «كريسنت» أو «الملكة» نسبة إلى الملكة البريطانية إليزابيت التي قضت فيه ليالي شهر العسل أثناء زيارتها لدرة تاجها الملكي البريطاني (عدن)، في خمسينيات القرن الماضي. 

 تمثال لينين العظيم

وغير بعيد كان ينتصب نصب تذكاري آخر من الرخام ناصع البياض على مدخل الكلية الحربية بمعسكر صلاح الدين بمدينة عدن الصغرى (البريقة)، لزعيم الأممية العالمية «العظيم فلاديمير إليتش أوليانوف» الشهير بلقبه الأممي والحركي «لينين»، لم يعد اليوم هناك بعد أن هدمته معاول الإخوان والإسلام السياسي.

الزحف الأحمر

وبالقرب من دار الأمير «سعد» التي هي مديرية دار سعد على تخوم حدود محافظة لحج، هناك «مدرسة الزحف الأحمر» إحدى المدارس المخصصة لأبناء البدو والرُّحل، والتي قام الرئيس الراحل الشهيد سالمين بتأسيسها في السنوات الـ10 الأولى من عمر الجمهورية (67ـ77م)، مع تشييد أكثر من 70 مصنعا ومعملا ومؤسسة إنتاجية على غرار نهج الثورة الصناعية والثقافية الصينية وتجربة رائدها وعظيمها الاشتراكي الصيني ماو، هي الأخرى لم تعد هناك بعد أن حولت وغيرها من المدارس إلى معسكرات لمرتزقة الاحتلال ومخازن أسلحة للجماعات المسلحة، كما هو حال مصنع الغزل والنسيج، وغيره من تلك المنشآت الصغيرة والمتوسطة التي دمرتها سلطات 7/7 وسرحت عمالها واستولت على مساحاتها وحولتها إلى مؤسسات شخصية أو معاهد إسلامية ومعامل تفقيس وتفريخ للتطرف والإرهاب. 

هدم معبد «صيرة بيرة» 

قبل هجرة رفاق يسار الجنوب الأولى لعاصمتهم اليسارية عدن إلى عاصمة اليمين الرأسمالي صنعاء أو الحلم الأزلي «آزال»، بحسب أبجديات النظم الداخلية للأحزاب الاشتراكية وشعارات التيارات وفصائل اليسار وحركات التحرر العربية والتقدم الأممية، تركوا عاصمتهم وناسها تغرق في ملذات «أبو ولد»، وسخرية الشارع الجنوبي لقيادته بإطلاق عبارته الشهيرة «أربعة بدينار» عند شراء 4 باكت من بسكويت أبو لد بدينار واحد فقط. المقصود بها بيع قيادته التاريخية وتحديدا الشهداء «الأربعة الأماجد» (فتاح وعنتر وشاىع ومصلح)، بعد أن تنازلت قيادة عدن اليسارية عنهم، وغرقت في ملذات يمين العطاء الرأسمالي ومغريات البيات الشتوي على سفوح وشرفات صنعاء وطيرماناتها، التي كان ثمنها أكثر من 200 كادر يساري قتلوا غيلة وغدراً بكواتم يمين رجعي كان يحتسي على ضفاف صيرة عدة زجاجات تحمل اسمها ويحتفي بنخب موتها إثر كل عملية اغتيال ودم يراق، فيما يد الرفاق ترتعش في زمهرير صنعاء ولم تعد تقوى على قبضة كأس أو زناد.

لتنتهي رحلة المهاجرين الثوريين الوحدويين الشتوية، والمؤلفة قلوبهم بشعار «النضال الوطني والدفاع الثوري والحلم الوحدوي والخطط الخمسية»، بصيف ساخن وألف ساعة حرب لم تسقط مدافعها فقط عاصمة وكومنة اليسار ومعبدها الاشتراكي، ودكت في أقصى جنوب الأرض قلاعها، معالمها ومسمياتها، بل غلبت معها درة التاج الامبراطوري وجوهرة السلاطين، وسلبت مدنية المدينة منها بخطة واحدة وشعار واحد مسروق ومحرف «الوحدة أو الموت»، وتغلب الموت فيه على الوحدة والحياة، لتدخل المدينة بعدها في بيات شتوي وموات وغياب وحدوي دام أكثر من 22 عاما غرقت فيه المدينة واستبدلت فيها ليس فقط مسمياتها التي جرفتها رياح الوحدة وتيارات الإصلاح الديني والإسلام السياسي، وتبرقعت براياته السوداء وانزوت في ظلام جلبابها الجديد.

السقوط الأخير.. في أوحال النفط

بعد هزيمتها عام 94م، خرجت منها بحراً وبراً آخر قياداتها الثورية والسياسية، وتلقفت موجة هجرتهم الثانية عواصم ممالك وإمارات النفط الرجعية، التي ظلت قيادات العاصمة اليسارية عدن طوال ربع قرن تناصب أمراءها وملوكها العداء الأيديولوجي وتتوعد بشعاراتها الثورية وأناشيدها الأممية بإسقاط عروشها.

لم تسقط تلك الممالك الرجعية المحمية بالأساطيل الغربية وقواعدها العسكرية، ولكن سقطت حثالات بقايا اليسار في أوحالها بعد أن يممت في هجرتها اليسارية الثالثة والأخيرة نحو عروش تلك العواصم النفطية وباعت مع مرتزقة اليمين وسلفية الجنوب «جنة عدن»، وناقة «صالح»، في سابقة لم يجرؤ (الأحمر) نفسه ولا آل ثمود على فعلها.

في مارس 1871 سيطر الشيوعيون الفرنسيون على باريس وأقاموا نظاما اجتماعيا لاغيا للدولة بمؤسساتها العسكرية والأمنية باعتبارها دولة طبقة السيطرة الرجعية مستعيضين عنها بتشكيلات شعبية كـ «أول تطبيق اشتراكي في العالم»، إلا أنها لم تستطع  الصمود بوجه هجمات البروسيين «الألمان» أكثر من 72 يوما وسرعان ما انهارت لتصبح رمزا للحلم الاشتراكي ومصرع هذا الحلم في الوقت ذاته لدى اليسار في عموم العالم. ومصطلح كومونة «commune» هو مفردة فرنسية تعني التشكيل الاجتماعي الاقتصادي المصغر. 

(عدن- مهدي الصبيحي / لا ميديا)

You might also like