كل ما يجري من حولك

مجزرة صالتي الكبرى

341

 

حمود عبدالله الأهنومي

بعد صباح مليء بالعمل والمتاعب..

وبينما أنا عائد إلى بيتي وقد دخلته وتفقّدْت مَنْ فيه..

وصَلَتْ إلى هاتفي رسالةٌ من أحدِ الأصدقاء نصّـت على:

“عظم الله أجرك في استشهاد عمك المجاهد حسين علي عامر”..

أعدْتُ النظَرَ في التلفون بعد أن حاولْتُ أن أمسحَ على عيني مرةً أُخْــرَى..

يا للهول!! ما هذا؟

هل هذا صحيح؟ سألت نفسي..

ألم يتصِلْ بي هذا العمُّ عشيةَ ذلك اليوم يؤاذِنُـني بعودته إلى جبهته؟

فكيف أسرعَتْ إليه الشهادة؟ ولا إخاله قد وصل مترسه الذي أنِسَ إليه سنة كاملة..

ألم يقل لي: بأنه قد قرّر العودة إلى الجبهة وأنه بسبب استعجال رفاقه تلك الليلة لا يستطيع زيارتنا؟..

حين قرأت الرسالة.. قلْتُ لأهلي: سأخرج للصلاة في المسجد.. ثم أعود..

لم أستطع إجراء اتصالات وهم يسمعون..

في طريقي إلى المسجد هاتفْتُ ذلك الصديق:

“هل أنت الذي أرسلْتَ الرسالة؟ وهل ما فيها صحيح مئة بالمئة؟”

أجاب: نعم.. أكيد.. رحمة الله تغشاه.. لقد اصطفاه الله إليه..

قلت: وهل استشهد مع كُـلّ رفاقه الـ11؟

أجاب: لا.. بل استشهد وحده.. وسلم رفاقه جميعهم.. وبعضهم جرح..

لقد استشهد في صرواح..

يا الله.. أبهذه السرعة.. نادَتْه الشهادة.. واختارَتْه الكرامة؟!

* * *

بينما كنت أجري ذلك الاتصال.. إذَا بغارة جوية تقصف مكانا بدا أنه إلى الجنوب منا..

وتكرّرت تلك الغارات بشكل هيستيري..

قلت لنفسي: لماذا هذه الطائرات الملعونة مستنفرة؟ هل بسبب مقتل أحد قادتها المرتزِقة.. ؟

تكرّرَتْ تلك الغاراتُ بشكلٍ مزعج.. قلتُ: اللهم أسمعنا خيرا..

.. لكن غارات نبأ استشهاد عمي حسين كانت أوقع على نفسي.. وأكثر جذبا لذهني..

 

*   *   *

صليتُ الظهرين..

غير أن قِبلةَ قلبي كانت في صرواح ترفرف لدى ذلك الشيخ الشهيد..

أُحدِّث نفسي: ماذا أقول لابنته المكلومة.. التي لا زالت تنوءُ بألم استشهاد أخيها وابن أختها وبعض أبناء عمومتها وإخواننا وأصدقائنا وأقاربنا جميعا..

لقد كانت نفساء بابنتنا الصغيرة.. التي لم يأخذ اللهُ منا جدّها حتى أعطانا إياها..

جدها الذي انتظر مقدّمها بفارغ الصبر..

لما رآها وليدة أعجبته وقال تلك العبارة: ما شاء الله بنت داهية.. أي جميلة..

إنه الله الذي يداخل ألطافه.. وينوع عطاياه..

يأخذ ويعطي.. ويجبر النفوس المتزعزعة والقلوب المتصدعة..

فكرْتُ بأية طريقة أخبر ابنته.. وما هي التهيئة المناسبة؟

وقد كانت أسرتنا آنذاك لم تتعود على كثرة الشهداء..

 

*   *   *

فجأةً وصلتني رسالة خبرية تقول: أنباء عن قصف الصالة الكبرى في عزاء آل الرويشان..

ثم رسالة أُخْــرَى: أنباء عن استشهاد وجرح المئات من المعزين في الصالة الكبرى..

فقلت: يا ألله.. ما أعظم هذه المصيبة!! وأشد هذه البلوى!!

مصيبة.. فداحتُها هوَّنَتْ مصيبتي في شيخ الشهداء..

اتصلت ببعض الأصدقاء وأختا لي من الرضاعة.. وهي من ذوات البصيرة ولديها من العظة والقول والعبرة والتجربة والشهداء ما جعلها جديرة بتحمل مهمة المواساة عند الصدمة الأولى..

طلبْتُ منهم مجيء أهلهم لمواساة هذه المرأة..

غير أنني سبقتهم لإخبارها وأولادها بأن المجرمين قصفوا الصالة الكبرى وفيها المئات من المعزّين..

وأضفت: الله أعلم كم سيكون عدد الشهداء!!

قلت لهم ذلك حتى تهون مصيبة (صالة شيخهم) عند ذكر مصيبة الصالة الكبرى حين يعلمون بها..

 

*   *   *

بعد مضي وقتٍ.. وصل الأصدقاء وزوجاتهم وتلك الأخت الطيبة..

وشاء الله أن لا نحزن لوحدنا.. بل لبست صنعاء أَيـْـضاً ثوب الحداد معنا..

وشاركنا جميع أهلها بصالتهم الكبرى التي صغرت صالتنا عندها..

لقد شق موكب الشهيد طريقه إلى بلاد الشمال في ريف حجة..

وكان كلما مر من قرية أَوْ مدينة وتطلّع أهلُها شبابا أَوْ شيوخا إلى صورته رأوه كهلا شهيدا واستغربوا..

لا أدري مَنِ الذي أخبرهم أنه لا يستحق الشهادة إلا من كان شاباً..

..: عيِّنوا عيّنوا (انظروا).. إنه شهيد شيبة!! هكذا كانوا يقولون لبعضهم..

وكان البعض منهم يعود باللائمة على نفسه..

كيف بهذا الكهل يستشهد ونحن نقبع في بيوتنا ولم نشعر بالمسؤولية علينا..

 

*   *   *

قال لي رحمه الله يوماً: (ما أشوع من ذولاك الذي بيقولوا) لي: أنت شيبة (خلاص) اجلس في بيتك.

وكم أحنج (أحب) الشباب الذي (بيرتاحوا) لشيبة بينهم في الجبهة.

وأضاف قائلاً: أحسن مجاهدين هم مجاهدو أهل صعدة: لأنهم يطلقون علي اسم (عمار بن ياسر) حقهم.

وكان عمار يقاتل مع الإمام علي في صفين وقد ناف عمره على التسعين..

وكان (يزومل) برجزه: اليوم ألقى الأحبة.. محمداً وحزبه..

عمار بن ياسرنا قال أيضاً: كم بقي من عمري؟..

إنه قليل جدا.. ما أروع أن أختمه بالشهادة في سبيل الله.. وأستثمره في مرضاة الله..

وأخيرا نال ما طلبه.. وتحقّق ما أمّله..

فهنيئا له تلك المنزلة العظيمة بإذن الله..

وأسأل الله له القبول..

 

*   *   *

جدير بالذكر أنه كان مرافقا شخصياً للشهيد عبدالله الحمدي

وكان شاهدا على بعض تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم الذي اغتيل فيه مشروع الدولة في اليمن باغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي.

وكان قد أدلى بشهادته ومشاهداته حول استشهاد الرئيس الحمدي وقتلته وتم نشرها منذ سنوات.

وتداولت شهادتَه مواقعُ عديدة..

لقد رأى المجرمين المتورّطين بأمّ عينيه في ذلك اليوم.. وكان لا يزال يحدثنا عنهم..

ومنذ ذلك اليوم المشؤوم.. عاف حياة العسكريّة.. وعاد أدراجه إلى مسقط رأسه.. وزراعته..

حتى إذَا شنّ المعتدون عدوانهم على اليمن لم يقرّ له قرار..

انطلق لا يلوي على شيء وراءه..

ورابط في الجبهة ما يقارب العام جهادا وثباتا وصبرا..

وكان لطيف المعشر.. كريم النفس.. ولهذا كان هناك بلسمَ أرواح المجاهدين.. ومَصْدَرَ سعادتهم ونكتتهم..

ولا زالت عباراته في (الإشارة) صباح كُـلّ يوم محفوظة في أذهان مَن بقي من زملائه..

وهو يتحدث عن معنويات المجاهدين ومعنويات أعدائهم.. وكأنه كان يلقي برنامجا تحفيزيا في التوجيه المعنوي..

 

*   *   *

والحقيقة أن شيخ الشهداء وجد ضالته المنشودة في الجهاد..

لقد ذاب في الجِهاد وحياتها وتفاصيلها..

ولكأنه كان يبحث عنه 69 عاماً فوجده في العام السبعين..

لما قيل له: أصبحتَ شيخا.. ومن الأفضل لك أن تبقى في البيت..

قال: ماذا أعمل في البيت؟ وهل يغمض لي جفن وأنا أرى المجازر والشهداء يوميا؟ وكم بقي من عمري؟ خمس سنوات أم أم أقل أم أكثر؟ وكيف سأقضيها؟ هل في نعيم وسعادة أم في عسر وشقاوة؟

لا.. لا..

دعوني أستثمر موتي في سبيل الله..

كان يقول لهم: صدقوني أنني سأقاتل أفضل من كثير من الشباب..

 

*   *   *

فيا أيها الشيخ الجليل.. والعم الحبيب..

يا عمار بن ياسرنا..

يا أحد حجج الله على كُـلّ القاعدين والمثبطين والمخذلين والشباب والشيوخ..

في ذِكْــرَى استشهادك 8 أكتوبر 2018م أقول لك:

سلام الله عليك..

طِبْ نفسا وقَرّ عينا…

أما بعض أحبابك فقد أصبحوا بجوارك..

وأما البعض الآخر ففي ذات الطريق لم ينكلوا ولم يتأخروا..

ولسْتَ أنت وحدك من غادرنا في ذلك اليوم فهناك من العسكريّين والمدنيين من ذهب معك إلى ربك..

الشهداء كثر في الصالة الكبرى وفي غيرها

لكن بعض مَنْ بقي وراءهم ممن تلطخت دماؤهم بمعشوقك (الحمدي) ظلوا يحملون ذاكرة ذبابة وطنية وحقد بعير شخصي.. فنسوا تلك الدماء الغزيرة.. وإذَا بهم في أحضان العدوّ.. فقتلوا شهداء الصالة قتلا أفظع وأشنع من قتل القتلة..

أما أنت فلن ننساك.. ما بقي عرق ينبض في أجسادنا بحرية وكرامة وعزة..

وإلى الله الملتقى.. وأنعم بمَن رضي الله عنه وقبل وعفى..

ولا نامت أعين المرتزِقة والمتخلفون والجبناء!!

You might also like