كل ما يجري من حولك

ثقوب أميركا السوداء

586

بقلم : علي قاسم

يتدحرج ما اصطلح على تسميته الثقب الأسود، ليشمل كامل النشاط الأميركي بما فيها تعاطيه مع التنظيمات الإرهابية، وتحضر معه معطيات المزاوجة بين الاستثمار في الإرهاب والتوظيف السياسي لمختلف السلوكيات الناظمة للعقل الأميركي بتفرعاته المختلفة وأجهزته المركبة في سياق التداخل بين الحالة الإرهابية،

كجزء منفصل وقائم بحد ذاته، و الأدوات المستخدمة في إدارة هذه التنظيمات.‏

ومع أفول داعش، واقتراب الحسم لمختلف المكونات الناظمة للشكل الإرهابي التقليدي، كان لا بد من البحث عن بدائل إضافية، لا تكتفي بتغييرات جوهرية في طريقة التعاطي، بل تنسحب على الصيغ التي تحاول من خلالها أميركا، أن تقدم بدائلها، وإن كانت تنتقل من فشل إلى آخر، بمختلف الخيارات التي أقدمت عليها، حيث البدائل الجديدة، لن تكون أوفر حظاً من سابقاتها، وتبقى محكومة بحسابات وتجاذبات المشهد الإقليمي واعتباراته المختلفة.‏

وبالمقارنة التي كانت تجريها واشنطن في معايرة النتائج، بدت أكثرها متسقة مع تمنيات لم تحصد منها سوى الخيبة، وتحديداً فيما يتعلق بالتعويل على الإرهاب، حيث الحصيلة الأولية، أن واشنطن تبحث عن ذرائع واهية لتبرير استمرار وجودها، وهي مقتنعة أكثر من سواها أنها لا تقنع أحداً، وأن سقف ما يمكن أن تحققه هو مجرد مناكفة سياسية، تؤخر اعترافها بتآكل أدواتها، خصوصاً تلك التي كانت من بقايا ونتف تنظيمات إرهابية، بالغت في تورمها وتضخيمها بدءاً من داعش، وليس انتهاء بالقاعدة، ومروراً بكل ما نبت على هوامشها من تسميات مصطنعة، كانت تؤدي إلى النتيجة ذاتها.‏

على المسار الموازي لمحاولات واشنطن، كانت الاعترافات الفرنسية بالخسارة أولى الحنجلة الغربية، باعتبارها رأس حربة في دعم الإرهاب التي يتوقع أن تكر سبحتها حتى النهاية، فمن خلال معاينة أولية للتطورات والأحداث، وما تفرضه من واقع يملي حتمية التدحرج السياسي في المنظومة الغربية، والتي لن تقف عند حدود ومساحة ما يجري من اعترافات على أساس خسارة الجولة بكاملها، أو على الأقل وفق التعبير الغربي المشذب، بأنه لم يكسبها، وهذا بحد ذاته يؤسس لمقاربة جديدة، لن تستطيع الإدارة الأميركية تجاهل إسقاطاتها السياسية ومنعكساتها على كامل المشهد السياسي، باعتبار أن الاعتراف بداية خروج عن السكة الأميركية.‏

فالثقب الأميركي الأسود الذي ينتج كل هذه المحاولات، ويفرّخ مجموعة تنظيمات إرهابية، يصعب بأي حال من الأحوال التعويل عليها، بعد تجربة النصرة وداعش ومختلف التسميات الإضافية، يتجه نحو الاتساع على وقع الرغبة الأميركية في إدراج مجموعة متحركة من الثقوب السوداء من الصبغة ذاتها، وإن اختلفت في مقاربتها، وتصلح في الوقت ذاته لمشاغلة الآخرين، ولاستهلاك الوقت حتى إشعار آخر، على الأقل فيما يتعلق بالتذرع بمكافحة الإرهاب التي تحولت إلى قربة مثقوبة، لا جدوى من النفخ فيها.‏

وهذا ما يتقاطع مع التحضيرات العملية والتدريبات التي تجريها أميركا لبعض المرتزقة بالتعاون مع بريطانيا والنروج، لتكون النموذج الجديد في التعاطي مع الفراغات الناتجة عن انحسار تدريجي، لكنه مفاجئ وغير متوقع في الحسابات الأميركية، لجهة المراهنة على متغيرات كافية، لإحداث فرق يمكن التعويل عليه، حيث فرضت التطورات الميدانية حتمية المقاربة السياسية العاجلة، واستدراك ما يمكن استدراكه، ومحاولة استيعاب الفروق الكبيرة المتراكمة التي أنهت حقبة كاملة من عصر داعش وما بعده.‏

على العكس من ذلك، كانت واشنطن تبني على الوهم وما يفيض منه، وكانت تقسو في فرضه على أدواتها وتحالفاتها، حيث ما يصلح هنا كان خاطئاً ومبنياً على عوامل افتراضية خادعة هناك، حتى بدت الثقوب السوداء الأميركية مخترقة بالكثير من البقع التي بدت فاضحة لجهة الدور الأميركي، كما هي لوضاعة الأدوات التي تستخدمها، أو توكل إليها مهامها القذرة، وتتكل عليها لمشاغلة الوقت والاستثمار فيه.‏

وجاءت الانحسارات المتتالية في نفوذ الجهات الداعمة للإرهابيين، وتمكن روسيا إلى حد بعيد من اختراق منظومة العدوان، وتشتت الخيارات البينية، وتراكم الخلافات على الأجندات الفردية، وتباين الحسابات لكل طرف، جاءت لتساهم في صياغة مشهد كان مكملاً لمشهد الانتصارات الميدانية وحسم المعركة مع داعش إلى حد بعيد، ما اقتضى بالضرورة إعادة النظر في المقاربات السياسية، التي أفضت إلى تغيير في أوراق القوة لدى محاور المواجهة مع الإرهاب وأدواته وداعميه، رجحت الكفة، وراكمت من فائض أوراق القوة.‏

بالمحصلة.. نحن أمام مشهد تجريب عبثي، تطلقه أميركا بالاعتماد على مجموعات مرتزقة، وما تبقى من شتات التنظيمات الإرهابية، لكنه تجريب محكوم عليه سلفاً بالهزيمة، مهما تكن تسميته، فما عجزت عنه أميركا بمؤازرة رهط من التنظيمات الإرهابية، وكمٍ أكبر من الأدوات المتناغمة ومقدمي الخدمة المجانية، لن تحققه بثقوبها السوداء التي اخترقتها الحقائق الصادمة، وفي أكثر من موقع، والتي لم تعد حكراً على علاقتها المشبوهة بالتنظيمات الإرهابية، وإنما تنسحب على كامل الدور الأميركي ومعادلاته وحيثياته.‏

a.ka667@yahoo.com 

You might also like