سورة الإسراء وتسمى بسورة بني إسرائيل أيضا، فيها ذكر الله تعالى إسراء النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وذكر إفسادين في الأرض يقوم بهما بنو إسرائيل، ولم تكن حادثة الإسراء عبثا، بل كانت تعبيرا عن قضية الصراع بين المسلمين وبني إسرائيل حول المسجد الأقصى، وأن هذا الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى هو رابطة وصل روحية بين المسجدين؛ للدلالة على أنهما قضية واحدة، وهي قضية الإسلام، فمن فرط في المسجد الأقصى، فقد فرط في المسجد الحرام، وبالتالي فقد فرط في الإسلام كله.

سورة الإسراء؛ سورة محورية في قضية الصراع الإسلامي الإسرائيلي حول المسجد الأقصى، فهذه القضية مثارة بقوة في هذه السورة لمن تدبرها، وكأنها تحذر المسلمين من خطر بني إسرائيل الكبير، وهي السورة التي يجب أن تؤطر تفكير المسلمين في صراعهم التاريخي مع بني إسرائيل؛ وهذا الصراع ليس وليد العصر الحديث كما يعتقد الكثيرون، بل ولد مع بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم)، عندما تصدى يهود المدينة وهم من بني إسرائيل لدعوة النبي، وفعلوا كل ما بوسعهم لإيقاف هذه الدعوة حتى لا تكون عالمية، لأنهم كانوا يرون أفضليتهم على سائر الناس، وأنهم سيحكمون العالم يوما ما ببعثة نبي منهم، فلما خاب أملهم كادوا للإسلام والمسلمين كيودا.

فمنذ بعثة النبي (عليه الصلاة والسلام) وهم يكيدون للمسلمين، ويشعلون الحروب ضدهم بالواسطة أو بالمواجهة المباشرة، من أجل التعجيل بالقضاء على دعوة الإسلام، لكن الله بعث عليهم عبادا له أولي بأس شديد، فدخلوا ديارهم وقضوا على وجودهم في شبه الجزيرة العربية، وتلك هي المرة الأولى والإفساد الأول في الأرض، الذي أخبر الله عنه في سورة الإسراء، حيث ذكر الله تعالى بأنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وذلك في قوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا) [الإسراء:4-5].

ثم ستتلوها المرة الثانية وهي الآخرة، وهذه هي التي حصلت في العصر الحديث، ونحن نعيشها اليوم، وقد ابتدأت مع استقواء بني إسرائيل – وهم اليهود المشتتون في العالم – بالمال والنفوذ والنفير، فكرّوا بذلك على المسلمين، واستولوا على المسجد الأقصى، كما أخبر الله تعالى في حقهم: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) [الإسراء:6]، وهذا بتوطين اليهود في أرض المقدس، وجلبهم من كل مكان في العالم، جماعات تلْوَ الأخرى؛ لاحتلال هذه الأرض، كما أخبر الله تعالى في آخر سورة الإسراء، (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) [الإسراء:104].

فالآخرة معناها هنا ليس كما فسروها بأنها يوم القيامة، بل معناها المرة الثانية والآخرة من الإفساد في الأرض، واللفيف في اللغة هو جماعة مختلطة من الناس، لأن يوم القيامة يجئ الناس إلى الله فرادى، وليس جماعة، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام:94]، فدل ذلك أن معنى الآخرة، هي المرة الثانية والإفساد الأخير، وأن في هذه ستكون نهايتهم، وسينتصر المسلمون ويملكون المسجد الأقصى، فقد قال الله تعالى في حقهم: (إفَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، ومعنى: (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) إما أنها تتحدث عن امتلاك المسلمين للمسجد الأقصى في عهد عمر بن الخطاب؛ عندما جاء بنفسه من المدينة إلى المسجد الأقصى، فاستلم مفاتيحه من النصارى، وإما أنها تتحدث عن استرجاعه من قبل المسلمين في عهد صلاح الدين الأيوبي، هذا إذا علمنا أن المحرك الحقيقي للحملات الصليبية هم اليهود، فملوك أوروبا وجنودهم لم يكن يهمهم قضية الدين المسيحي ولا الأرض المقدسة، فهذا فقط لتبرير الحملات الصليبية، بل الغرض الحقيقي هو المال والثروة، وكانت مركزية المال في أوروبا في يد اليهود، وكانوا يملكون أكبر المراكز التجارية على الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، كانوا يقومون بتحريك الحملات الصليبية إلى المشرق، لأنهم يؤمنون بالعودة إلى الأرض المقدسة، التي سيحكمون العالم منها، فكانت حروبهم بالواسطة، عن طريق سلطة المال، والسيطرة على المراكز التجارية في أوروبا، مما أعطاهم قدرة على التأثير في سياسة النصارى، وتوجيه حملاتهم الصليبية إلى بيت المقدس، وكانوا مقربين إلى ملوك أوروبا، فقد استفاد الملك الفرنسي فيليب أغسطس كثيرا من اليهود الفرنسيين؛ حتى أطلقوا عليهم يهود الملك، وفي ألمانيا أيضا كانت لهم علاقة وثيقة بالملك، وكان لهم دور كبير ماديا في الحملة الصليبية الثالثة، فهم الذين كانوا يحركون أوروبا ويوجهونها إلى ما يخدم قضيتهم في السيطرة على العالم.

فالسورة إذن تتحدث عن الإفسادين اللذيْن سيقعا في عهد الإسلام، وليس قبله كما ذكر كثير من المفسرين، من أن الإفساد الأول كان قبل الإسلام، في عهد نبوخذ نصر ومنهم من يسميه بختنصر، وهو الملك البابلي الذي حارب اليهود وقضى على دولتهم وقام بسبيهم، فهذا بعيد جدا، لأن ذاك كان وثنيا هو وجنوده، فكيف ينطبق عليهم قوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا) وتحقيق العبودية لا يكون إلا للمؤمنين.

احتلال الأرض المباركة، ومعها المسجد الأقصى من قبل يهود بني إسرائيل الصهاينة هي بداية نهاية الحركة الصهيونية في العالم، والقضاء على دولة إسرائيل، وهذا وعد للمسلمين ووعيد ليهود بني إسرائيل المعتدين، كما نستفيد من هذه السورة.