توقفت وكالة “بلومبيرغ” عند إعلان السعودية عن ميزانيتها للعام المقبل، وقالت إن المسؤولين السعوديين قدّموا “الميزانية الأكثر تفصيلاً في تاريخ البلاد”، في محاولة لإقناع المواطنين والمستثمرين على السواء، بجدية خطتهم لـ”تخفيف العجز وتقليص اعتماد الاقتصاد على النفط”، لا سيما وأن الرياض أعلنت أنها نجحت في تخفيض الانفاق بنسبة 16 في المئة، وفي تقليص نسبة العجز في العام 2016، بمستويات تجاوزت التوقعات، وإن كان معدّل النمو في القطاع غير النفطي، لم يتجاوز 1 في المئة ، على الرغم من توسع أعمال القطاع الخاص. ونوّهت “بلومبيرغ” بأن هؤلاء المسؤولين “لم يظهروا أي علامات على التراجع عن خطط التحوّل بعيداً عن النموذج الاقتصادي الذي تقوده الحكومة، والذي لم تعد الأخيرة قادرة على الاستمرار فيه”.ولفتت الوكالة إلى أن الميزانية السعودية للعام 2017 قدّمت “سيناريوهات مختلفة” للآليات والكيفية التي يمكن أن يتطور ويتحسن فيها الوضع المالي العام في المملكة، مع انقضاء عامين على انخفاض أسعار النفط، وذلك بحلول العام 2020، مشيرة إلى أن الوثيقة المشار إليها توقعت انخفاضاً أكبر في مستويات العجز في العام القادم، مع استمرار التحسن في الإيرادات الحكومية، إلى جانب ترجيحها حصول “فائض مالي” مطلع العام 2019، وفق “السيناريو الأكثر تفاؤلاً”.ومن هذه الآمال والتوقعات، لحظت “بلومبيرغ” انقسام الخبراء الاقتصاديين والمحللين الماليين بين من “رحّب” بالميزانية الجديدة، وبين من “شكّك” بصدقيّة الأرقام والجداول المعروضة فيها، خصوصاً وأن جهود المملكة لتحقيق التوازن في الموازنة على مدى الأعوام الأربعة المقبلة، “ما زالت تعتمد على (رهان) ارتفاع أسعار النفط”، في وقت تبدو فيه الخطوة السعودية بمثابة “انعكاس للرياح المعاكسة التي تواجه أكبر اقتصاد عربي، تعمل الغالبية العظمى من مواطنيه يعملون في القطاع العام”، بينما “تلجأ الشركات السعودية إلى توظيف العمالة الأجنبية الرخيصة وغير المكلفة”.وبحسب كريسبين هاوز، المدير الإداري في مؤسسة “تينيو انتليجنس” المالية في لندن، “يبدي كبار المسؤولين (السعوديين) رغبة حقيقية في معالجة المشكلات الهيكلية، في حين تكشف الميزانية عن استعداد الحكومة لاستخدام عائدات تصدير النفط الخام المتوقع نموها، في تعزيز النمو عبر التوسّع في الانفاق”. كما شدّد هاوز للوكالة على أن “عائدات النفط سوف تظل تحتل الحيّز الأكبر في الحسابات المالية (للمملكة) على المدى المنظور”.وذكّر تقرير “بلومبيرغ”، الذي حمل عنوان: “ميزانية سعودية تاريخية تكشف حجم الجهود لكسب التأييد لعملية التغيير”، بأن الخطط السعودية تأتي تتويجاً لعام شهد “أكبر (ورشة) إصلاح اقتصادي في التاريخ السعودي” من قبل ولي ولي العهد السعودي لإنهاء “إدمان” المملكة على النفط. كذلك، وعلى الرغم من اقتراب أسعار النفط من مستويات 55 دولاراً للبرميل، وهو المستوى الذي يقل بنسبة 36 في المئة عن معدلاتها قبل 10 أعوام، لفت التقرير إلى إعلان وزير النفط السعودي خالد الفالح، عن “أجرأ الخطوات” الاقتصادية، والتي تشمل ربط أسعار الوقود، والكهرباء في السوق المحلية، بالأسعار العالمية في غضون 4 سنوات، الأمر الذي كان قد ألمح إليه حين تحدّث ظروف اقتصادية قاسية في معظم بلدان العالم، بالإشارة الى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وهبوط أسعار النفط.من جهته، أوضح الخبير الاستراتيجي في مؤسسة “اليكتيك استراتيجي” لاستشارات الأسواق الجديدة، عماد مستاق، بقوله “الميزانية الجديدة لا تزال تعتمد بشكل واضح على إيرادات قطاع النفط، والقطاعات المرتبطة به، ولكنها تظهر مؤشرات نمو مبشرة في العوائد غير النفطيّة”، شارحاً أن “معظم العائدات غير النفطيّة المتأرجحة، والقليلة قد تم استغلالها”، وأن “العام 2017 سوف يكون العام الذي نحتاج فيه لرؤية انطلاقة اقتصاديّة، وخلق مئات الآلاف من فرص العمل التي يحتاجها الجيل القادم من السعوديين”.وأردفت “بلومبيرغ” بأن البيانات والجداول التوضيحية الواردة في الميزانية، التي كشف عنها الخميس، “شملت، ولأول مرة، التوقعات بشأن تطور الإيرادات والنفقات على مدار السنوات الأربع القادمة، فضلاً عن حجم الانفاق العسكري للدولة” خلال الفترة عينها، إلى جانب لحظها تخفيض النفقات الدفاعية بنسبة 7 في المئة خلال العام المقبل، على الرغم من مواصلة قيادتها لقوات “التحالف” ضد “المتمردين” داخل اليمن.وأشارت “بلومبيرغ” إلى أن المواطنين السعوديين قد أصبحوا على دراية بكيفيّة تأثير “رؤية 2030” على حياتهم، خصوصاً وأنها شملت إلغاء المكافآت والمخصّصات الإضافيّة للموظفين الحكوميين، فضلاً عن تخفيض رواتب الوزراء بنسبة 20 في المئة في سبتمبر الفائت، إلى جانب تضمّنها رفع أسعار الوقود نهاية العام الماضي، بما في ذلك رفع أسعار البنزين بنسبة لا تقل عن 50 في المئة. كما توقّفت الوكالة عند الحديث عن فرض ضريبة على القيمة المضافة بدءاً من العام 2018، وبعض الرسوم الأخرى على العمالة الوافدة، إلى جانب تخصيص الرياض صندوقاً خاصاً بقيمة 25 مليار ريال ( 6.7 مليار دولار)، من أجل “التخفيف من وطأة الخطة (رؤية 2030) على المواطنين من ذوي الدخل المحدود في بلد يبلغ تعداد سكّانه 31 مليون نسمة، ومن أجل “مساعدتهم على التأقلم مع خفض الدعم”.وتابعت الوكالة بأن ترشيد النفقات في المملكة عام 2016، سوف يعقبه زيادة المملكة لانفاقها العام المقبل من أجل العمل على تحفيز النمو الاقتصادي، الذي سجل أدنى مستوياته هذا العام بنسبة 1.4 في المئة، وذلك للمرة الأولى منذ العام 2009، كما تستهدف السعودية تقليص العجز في موازنة العام 2017 إلى ما نسبته 7.7 في المئة، من الناتج المحلي الإجمالي، بعدما وصل إلى 11.5 في المئة منه، في العام المنصرم. كذلك، سوف تعتمد الدولة الخليجية بشكل أكبر على المستثمرين الأجانب لسد الفجوة المالية، علماً بأن الرياض سجّلت رقماً قياسياً في أكتوبر الفائت ببيع سندات للمرة الأولى بقيمة 17.5 مليار دولار، بموازاة خططها لإصدار سندات دولية بقيمة تتراوح بين 10 و15 مليار دولار خلال العام المقبل، كما جاء على لسان وزير الاقتصاد السعودي محمد التويجري في مقابلة تلفزيونية مع قناة “العربيّة”.هذا، نقلت “بلومبيرغ” عن المديرة الاقتصادية في “بنك أبو ظبي التجاري”، مونيكا مالك، قولها إن ميزانية السعودية المؤلفة من عشرات الصفحات تظهر التحول عن (نهج) التقشف والتخفيض إلى ميزانية تركّز على دعم المواطن الحرجة ، والمجالات الحيوية للنمو الاقتصادي”، مشيرة إلى أن التوسّع في الانفاق “سوف يفسح المجال أمام الاقتصاد لالتقاط الأنفاس”، وإن كان سوف “يعني على المدى الطويل، الحاجة إلى المزيد من الإصلاحات الماليّة للحد من العجز”.على صعيد آخر، أوردت الوكالة آراء بعض الاقتصاديين المشكّكين في الأرقام والجداول الواردة في الموازنة، ملمّحين إلى إخفاء بعض أوجه الانفاق الحكومي، الأمر الذي قد يعني أن “السعوديّة قد تجاوزت حدود موازنتها”، حيث عبّر نائب المدير الاقتصادي لـ”مجموعة سامبا الاقتصادية”، ومقرها لندن، عن اعتقاده بأن العجز المالي في الميزانية السعودية لهذا العام بلغ نحو 19.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما اعتبر الباحث في معهد تشاتام هاوس، ديفيد باتر، أن “الزيادة في الايرادات غير النفطيّة في العام 2017 جاءت متواضعة للغاية وبحدود 7 في المئة فقط”.وأضافت الوكالة بأن التقديرات المالية الحكومية السعودية تتهيأ لبقاء أسعار النفط عند مستويات منخفضة نسبياَ، تلامس حدود 66 دولاراً للبرميل، وذلك بالمقارنة مع أسعارها قبل عشر سنوات حين تجاوزت عتبة 100 دولار للبرميل، الأمر الذي يعني أن السعودية سوف تحظى بـ”فائض مالي صغير” في موازنتها بحلول العام 2020، يقدّر بنحو 20 مليار ريال، لافتة إلى القفزة التي حققتها المملكة في زيادة عائداتها غير النفطية، التي نمت في العام 2016 ، بنسبة تقارب 36 في المئة، بعدما كانت العائدات النفطية تشكّل 90 في المئة من مداخيل الدولة، وذلك قبل أعوام قليلة.